اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّـٰبِرِينَ} (126)

قوله - تعالى- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } ، العامة على " المُفَاعلة " وهي بمعنى : " فَعَلَ " ؛ كَسافَرَ ، وابن سيرين{[20143]} : " عَقَّبْتُم " بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ [ بالانتصار فقفُّوا ]{[20144]} بمثل ما فعل بكم .

وقيل : تتبَّعتم ، والباء معدِّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة .

فصل

قال الواحدي رحمه الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رضي الله عنهم- : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به ، قال :

" والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ " ، فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل ، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد{[20145]} ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات .

والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى- : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا } [ البقرة : 190 ] ، وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله ، نزلت " براءة " وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبَّاس والضحاك .

والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين .

وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه - تعالى - أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً ، وبالشَّتْم ثالثاً ، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات ، لابد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه .

فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة ، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ .

قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - .

فصل

في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها ، ومن قتل بحجرٍ ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه ؟ .

فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية .

وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " {[20146]}

رواه الدارقطني .

وقال القرطبي{[20147]} : " ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر ، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمرِ ، فقال له : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " . وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك " .

فصل

اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب :

الأولى : قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، دليل على أن الأولى ألاّ يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله ، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه .

والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح ، وهو قوله - عز وجل- : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ، وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام .

المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك ، وهو قوله : " واصْبِرْ " ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام ، ولمَّا كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال - تعالى- :


[20143]:ينظر: المحتسب 2/13 والبحر 5/531، والدر المصون 4/367.
[20144]:زيادة من: ب.
[20145]:أخرجه أحمد (5/531) والترمذي (3128) وابن حبان (1696 ـ موارد) والحاكم (2/358 ـ 359) والبيهقي في "الدلائل" (3/289) من حديث أبي بن كعب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[20146]:أخرجه أبو داود (3534) والترمذي (1264) وأحمد (3/414) والدارقطني (3/35) والحاكم (2/46) وابن الجوزي في "العلل" (2/102) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الدارقطني (3/35) والحاكم (2/46) والطبراني في "الكبير" (760) وابن الجوزي في "العلل" (2/102 ـ 103) من حديث أنس بن مالك.
[20147]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 20/132.