قوله - تعالى- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } ، العامة على " المُفَاعلة " وهي بمعنى : " فَعَلَ " ؛ كَسافَرَ ، وابن سيرين{[20143]} : " عَقَّبْتُم " بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ [ بالانتصار فقفُّوا ]{[20144]} بمثل ما فعل بكم .
وقيل : تتبَّعتم ، والباء معدِّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة .
قال الواحدي رحمه الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رضي الله عنهم- : أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به ، قال :
" والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ " ، فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل ، فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد{[20145]} ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات .
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلُّ عليه قوله - تعالى- : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا } [ البقرة : 190 ] ، وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله ، نزلت " براءة " وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبَّاس والضحاك .
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين .
وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه - تعالى - أمر محمَّداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانياً ، وبالشَّتْم ثالثاً ، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات ، لابد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه .
فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة ، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟ .
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - .
في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها ، ومن قتل بحجرٍ ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه ؟ .
فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية .
وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " {[20146]}
وقال القرطبي{[20147]} : " ووقع في مسند ابن إسحاق : أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر ، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمرِ ، فقال له : " أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ " . وعلى هذا يقوى قول مالك - رضي الله عنه - في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك " .
اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب :
الأولى : قوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، دليل على أن الأولى ألاّ يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألاّ تأكله ، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [ على ] أن الأولى تركه .
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التَّصريح ، وهو قوله - عز وجل- : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ، وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام .
المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتَّرك ، وهو قوله : " واصْبِرْ " ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام ، ولمَّا كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال - تعالى- :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.