اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (111)

قوله : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ } ، يجوز أن ينتصب " يَوْمَ " ب : " رَحِيمٌ " ، ولا يلزم من ذلك [ تقييد ]{[20093]} رحمته بالظرف ؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم ، فرحمته في غيره أحرى وأولى .

وأن ينتصب ب " اذكُر " مقدَّرة ، وراعى معنى " كل " ، فأنث الضمائر في قوله : " تُجَادلُ . . . إلى آخره " ؛ ومثله قوله : [ الكامل ]

جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ *** فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ{[20094]}

إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى ، وقد تقدَّم أول الكتاب .

وقوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، حملاً على المعنى ؛ فلذلك جمع .

فإن قيل : النَّفس لا تكون لها نفس أخرى ، فما معنى قوله : " تُجادِلُ عن نَفْسِهَا " ؟ .

فالجواب : أن النَّفْس قد يراد بها بدن [ الإنسان ]{[20095]} الحيّ ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن ، والثانية : عينها وذاتها ؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، ولا يهمه شأن غيره ، قال - تعالى - : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .

روي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لكعب الأحبار : خوِّفنا ، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا ، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك ، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب ، ولا نبي مرسلٌ إلا وقع جاثياً على ركبتيه ، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمان - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول : يا ربِّ ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي ، وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار ؛ كقولهم : { هؤلاء أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] ، وكقولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{[20096]} [ الأنعام : 23 ] .

{ وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } فيه محذوف ، أي : جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، لا ينقصون .

روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : " ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الرُّوح الجسد ، فتقول الرُّوح : يا رب ، لم تكن لي يدٌ أبطش بها ، ولا رجلٌ أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا أذن أسمع بها ، ولا عقل أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني ، ويقول الجسد : يا ربِّ ، أنت خلقتني بيدك ، فكنت كالخشبة ، وليس لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عينٌ أبصر بها ، ولا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشُعَاع النُّور ، فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي ، وسمعت أذني ، فضعِّف عليه أنواع العذاب ، ونجِّني منه ، قال : فيضرب الله لهما مثلاً ؛ أعمى ومقعداً دخلا [ بستاناً ]{[20097]} فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثَّمر ، والمقعد لا يتناوله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر ، [ فغشيهما ]{[20098]} العذاب " {[20099]} .


[20093]:في ب: نصب.
[20094]:تقدم.
[20095]:زيادة من: أ.
[20096]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/87) والرازي (20/101).
[20097]:في أ: حائطا.
[20098]:في أ: فعليها.
[20099]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/87) والرازي (20/101).