اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ} (127)

{ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } ، أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السبب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات .

ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي ، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب ؛ فقال - جل ذكره- : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى [ إنزال ]{[20148]} الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب ، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :

أحدهما : فوات نفع كان حاصلاً في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ، قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى " أحدٍ " ، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك ، ويرجع حاصله إلى فوات النفع .

والسبب الثاني : أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ، ومن وقف على هذه اللَّطائف ، عرف أنَّه لا يمكن كلام [ أدخل ] في الحسن والضبط من هذا الكلام .

قوله : " للصَّابِرينَ " ، يجوز أن يكون عامًّا ، أي : الصبر خير لجنس الصَّابرين ، وأن يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر ، أي : صبركم خير لكم .

قوله : " إلاَّ بالله " ، أي : بمعونته ، فهي للاستعانة .

قوله : " في ضَيْقٍ " ، قرأ ابن كثير{[20149]} هنا وفي النَّمل : بكسر الضاد ، والباقون : بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر ؛ كالقول والقِيل .

وقيل : المفتوح مخفَّف من " ضَيِّق " ؛ ك " مَيْت " في " مَيِّت " ، أي : في أمر ضيِّق ، فهو مثل هَيْن في هيِّن ، و " لَيْن " في " لَيِّن " ، قاله ابن قتيبة .

وردَّه الفارسي{[20150]} : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف ، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز : مررت بكاتب ، وامتنع بآكلٍ .

وأما وجه القراءة بالفتح ، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب ، فإنه الضَّيْق .

وقال أبو عمرو : " الضِّيقُ بالكسر : الشدَّة ، والضَّيقُ بالفتح : الغمُّ " .

قوله تعالى : { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ، متعلق ب " ضَيْقٍ " و " مَا " مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف .

فصل

هذا من الكلام المقلوب ؛ لأن الضَّيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة ، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك ؛ لأن الفائدة في قوله : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } ، هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي ، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب ، وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى .

المرتبة الرابعة : قوله :


[20148]:في ب: ترك.
[20149]:ينظر: السبعة 376، والحجة 395، والنشر 2/305، والإتحاف 2/191، والقرطبي 10/133. والبحر 5/531، والدر المصون 4/367. ونسبت هذه القراءة إلى نافع، ولا يصح هذا.
[20150]:ينظر: الحجة 5/80.