اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا} (7)

قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا ، فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية ، فقد أساءوا إلى أنفسهم ، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ ، فلهذا المعنى قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } .

قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللام أوجه : أحدها : أنها بمعنى " على " أي : فعليها كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ{[20218]}

أي : على اليدين . وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعضٍ ؛ كقوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] أي : إليها .

والثاني : أنها بمعنى " إلى " .

قال الطبريُّ : " أي : فإليها ترجعُ الإساءة " .

الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دون " على " للمقابلة في قوله : " لأنْفُسكُمْ " فأتى بها ازدواجاً .

وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدرٍ كما تقدَّم في قول الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوف على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فلها الإساءةُ لا لغيرها .

قال الواحدي{[20219]} : " لا بُدَّ في الآية من إضمارٍ ؛ والتقدير : وقلنا : " إنْ أحسَنْتُم ، أحسنتم لأنفُسِكُمْ " والمعنى : إنْ أحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات ، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرَّمات ، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنَّ شُؤم تلك المعاصي يفتحُ الله عليكم أبواب العقوبة{[20220]} .

قال أهل المعاني : " هذه الآيةُ تدلُّ على أن رحمة الله تعالى غالبةٌ على غضبه ؛ بدليل أنَّه لما حكى عنهم الإحسان ، أعاده مرتين ؛ فقال : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } ولما حكى عنهم الإساءة ، اقتصر على ذكرها مرة واحدة ، فقال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك " .

قوله : " فإذا جَاءَ وعدُ الآخِرةِ " ، أي : المرَّة الآخرة ، فحذفت " المرَّةُ " للدلالة عليها ، وجواب الشرطِ محذوفٌ ، تقديره : بَعَثْناهُم ، ليَسُوءوا وُجُوهَكمْ ، وإنما حسُن هذا الحذف لدلالة ما تقدَّم عليه من قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } [ الإسراء : 5 ] والمرةُ الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وقصدهم قتل عيسى حين رفع .

قال الواحديُّ{[20221]} : " فبعث الله عليهم بختنصَّر البابليَّ المجوسيَّ ، فسبى بني إسرائيل ، وقتل ، وخرَّب بيت المقدس ، وسلَّط عليهم الفرس والرُّوم : خردوش وطيطوس ؛ حتَّى قتلوهم ، وسبَوْهُم ، ونَفوهُمْ عن ديارهم " .

قال ابن الخطيب{[20222]} : " والتواريخُ تشهد أنَّ بختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريَّا بسنين متطاولةٍ ، ومعلوم أنَّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملكٌ من الرُّوم ، يقال له : قُسطَنْطِينُ " .

قوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلق بالجواب المقدر .

يقال : سَاءَهُ يَسُوءهُ ، أي : أحْزَنَهُ وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه ؛ لأنَّ آثار الأعراض النفسانيَّة الحاصلة في القلب إنَّما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النُّضرة والإشراق والإسفار في الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسَّواد في الوجه ، فلهذا عزيت الإساءة غلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى في القرآن كثيرٌ .

وقرأ ابن عامر{[20223]} وحمزة وأبو بكر " لِيَسُوءَ " بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخراً .

والفاعل : إما الله تعالى ، وإمَّا الوعد ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النَّفيرُ ، والكسائي بنون العظمة ، أي : لِنَسُوء نحنُ ، وهو موافقٌ لما قبله من قوله { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } و " رَدَدْنَا " و " أمْدَدْنَا " وما بعده من قوله : " عُدْنَا " و " جَعَلْنَا "

وقرأ الباقون " لِيَسُوءُوا " مسنداً إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأسِ ، أو على النَّفير ؛ لأنه اسم جمعٍ ، وهو موافقٌ لما بعده من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } وفي عود الضمير على النفير نظر ؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين ، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوءُ وجوههم ؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائلُ أنه عائدٌ على لفظه ، دون معناه ؛ من بابِ " عِندِي دِرْهمٌ ونِصْفهُ " .

وقرأ أبيٌّ " لِنَسُوءَنْ " بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة ، وهذا جواب ل " إذا " ولكن على حذف الفاء ، أي : فَلِنَسُوءَنْ ، ودخلت لامُ الأمر على فعل المتكلِّم ؛ كقوله تعالى { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] .

وقرأ ابنُ أبي طالبٍ " لَيسُوءَنَّ " و " لَنَسُوءَنَّ " بالياء والنون التي للعظمة ، ونون التوكيد الشديدة ، واللام التي للقسم ، وفي مصحف أبيِّ " لِيَسُوءُ " بضم الهمزة من غير واوٍ ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغةِ من يجتزئُ عن الواو بالضمة ؛ كقوله : [ الوافر ]

فَلوْ أنَّ الأطبَّا كَانُ حَوْلِي *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20224]}

يريد : " كَانُوا حَوْلِي " وقول الآخر : [ الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . إذَا مَا النَّاسُ جَاعُ وأجْدَبُوا{[20225]}

يريد " جَاعُوا " ، فكذا هذه القراءة ، أي : لِيَسُوءوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فحذف الواو .

وقرئ " لِيُسِيءَ " بضمِّ الياء وكسر السين وياء بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ الله وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعد ، أو البعث . وفي مصحف أنس " وَجْهَكُمْ " بالإفراد ؛ كقوله : [ الوافر ]

كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20226]}

وكقوله : [ الرجز ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقَدْ شَجِينَا{[20227]}

وكقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ{[20228]}

قوله : " وليَدْخُلوا " من جعل الأولى لام " كَيْ " كانت هذه أيضاً لام " كَيْ " معطوفة عليها ، عطف علة على أخرى ، ومن جعلها لام أمرٍ كأبيٍّ ، أو لام قسم ؛ كعلي بن أبي طالب ، فاللام في " لِيدْخُلوا " تحتمل وجهين : الأمر والتعليل ، و " كَمَا دَخلُوهُ " نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه{[20229]} ، أي : دخولاً كما دخلوه ، و " أوَّل مرَّةٍ " ظرف زمانٍ ، وتقدَّم الكلام عليها في براءة .

والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه .

قوله : { وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } التتبير الهلاك ، يقال : تبر الشيء تبراً وتباراً وتبرية إذا هلك ، وتبَّرهُ : أهلكه ، وكلُّ شيء جعلته مكسَّراً مفتَّتا ، فقد تبَّرتهُ ، ومنه قيل : تبر الزجاج ، وتبر الذَّهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 139 ] ، وقوله : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ] وقوله : " ما عَلَوْا " يجوز في " ما " أن تكون مفعولاً بها ، أي : ليهلكوا الذي عَلوْهُ ، أي : غلبوا عليه وظفروا وقيل : لِيهْدمُوه : كقوله : [ الطويل ]

ومَا النَّاسُ إلاَّ عَامِلانِ ، فعَاملٌ *** يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وآخَرُ رَافِعُ{[20230]}

ويحتمل : " ويُتَبِّرُوا ما داموا غالبين " أي : ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل ، وعلى هذا تكون ظرفية ، أي : مدَّة استعلائهم ، وهذا يحوجُ إلى حذف مفعولٍ ، اللهم إلا أنْ يكون القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعل ؛ نحو : هو يعطي ويمنع .

وقوله : " تَتْبيراً " ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر ، وإزالة الشكِّ في صدقه كما في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] أي حقًّا ، والمعنى ليُدمِّرُوا ويخرّبوا ما غلبوا عليه .


[20218]:تقدم.
[20219]:ينظر: الفخر الرازي 20/126.
[20220]:سقط من: أ.
[20221]:ينظر: الفخر الرازي 20/127.
[20222]:ينظر: الفخر الرازي 20/127.
[20223]:ينظر في قراءتها : السبعة 378، والنشر 2/306، الحجة 397، البحر 6/10، التيسير 139، والشواذ 75، والقرطبي 10/146، والدر المصون 4/373.
[20224]:تقدم.
[20225]:جزء من عجز بيت وهو: يا رب ذي لقح ببابك فاحش هلع............................................. ينظر: الهمع 1/58، الدرر 1/33، الدر المصون 4/373.
[20226]:تقدم.
[20227]:تقدم.
[20228]:تقدم.
[20229]:ينظر: الكتاب لسيبويه 1/116.
[20230]:ينظر: البحر المحيط 6/11، القرطبي 10/146، روح المعاني 15/20، الدر المصون 4/374.