اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّـٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا} (3)

قوله : { مَّاكِثِينَ } : حالٌ : إمَّا من الضمير المجرور في " لهُم " ، أو المرفوع المستتر فيه ، أو من " أجراً " لتخصصه بالصفة ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين . فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال : ماكثين هم فيه . ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة ثانية ل " أجْراً " . قال أبو البقاء{[20789]} : وقيل : هو صفة ل " أجْراً " ، والعائد الهاء في " فيه " . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين .

و " أبداً " منصوبٌ على الظرف ب " مَاكثِينَ " .

فصل

اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين ، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع ، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ .

قال الزمخشريُّ{[20790]} : قرئ " ويُبشِّرُ " بالتخفيف والتَّثقيل و { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } بمعنى خالدين .

فصل

قال القاضي{[20791]} : دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل :

أحدها : أنَّ القرآن مخلوقٌ وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ ، وذلك من صفاتِ المحدثات ، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ .

والثاني : أنَّه وصفه بكونه كتاباً ، و الكتب هو الجمع ، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ ، وما صحَّ فيه [ من ]{[20792]} التركيب والتأليف فهو محدثٌ .

الثالث : أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه ، على إنزالِ الكتاب ، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ ، والنعمةُ محدثة [ مخلوقة ]{[20793]} .

الرابع : أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك ، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ .

وثانيها : خلق الأعمال ؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ :

الأول : نفس الأمر بالحمد ؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب ، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله ، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه .

أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله ، ولم يكن لكون الكتاب " قيِّماً " أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه .

والثاني : أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض ، وأنزل الباقي ليؤمن البعضُ الآخر ، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه ؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك .

والثالث : قوله : " لِيُنذِرَ " وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صلى الله عليه وسلم إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة ؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ ، وإذا خلق الكفر [ حصل ]{[20794]} شاء العبد أو لم يشأ ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه .

الرابع : وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى ، فلا علم لهم به ألبتة .

الخامس : إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا ؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم ، فلا إيجاب ولا استحقاق .

المسألة الثالثة{[20795]} : دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ ، وذلك يبطل قول من يقول : إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ{[20796]} .

فصل

واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة .


[20789]:ينظر: الإملاء 2/98.
[20790]:ينظر: الكشاف 2/703.
[20791]:ينظر: الفخر الرازي 21/65.
[20792]:زيادة من ب.
[20793]:سقط من أ.
[20794]:سقط من: ب.
[20795]:في الرازي: الرابعة، وهو خطأ.
[20796]:ينظر: الفخر الرازي 21/65.