اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا} (2)

وقوله : " قيماً " فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال : يريد مستقيماً [ قال ابن الخطيب : ]{[20785]} وهذا عندي مشكلٌ ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار ، بل الحق أن يقال : المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق ، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفالِ ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم .

قوله : " ليُنْذِرَ " في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : أنها متعلقة ب " قيِّماً " قاله الحوفيُّ . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق ب " أنْزلَ " . وفاعل " لِيُنذِرَ " يجوز أن يكون " الكتاب " وأن يكون الله ، وأن يكون الرسول .

و " أنْذَرَ " يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعوله الأول محذوف ، يقدره الزمخشري : " ليُنْذِرَ الذين كفروا " ، وغيره : " ليُنذِرَ العباد " ، أو " ليُنذرَكم " ، أو لينذر العالم . وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله " ويُبشِّر المؤمنين " ، وهم ضدُّهم .

وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا ، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ } [ الكهف : 40 ] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه ، وهو في غاية البلاغة ، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } .

قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكرٍ عن عاصم بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء ، فيقرأ " مِنْ لَدْنهِي " والباقون يضمون الدال ، ويسكنون النون ويضمون الهاء ، وهم على قواعدهم فيها : فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو : منهُو وعنهُو ، وغيره لا يصلها بشيءٍ .

وجه أبي بكرٍ : أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين " عَضُد " فالنون ساكنة ، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى : { وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في سورة النور ، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء . وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة .

والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى ، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو : " جاء الرجل " ، وهكذا قدَّره النحويون . وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقف المتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب " ياء " الكلمة . وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك ، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها ، ثم يأتي ب " ياء " في الكلمة .

فإن قلت : إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها . قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين{[20786]} ذلك الحرف المشار إلى حركته .

فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال . وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإشمام في { لاَ تَأْمَنَّا } [ يوسف : 11 ] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام ، ومنهم من يفعله بعده ، وهذا نظيره . وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها .

و " مِنْ لدُنه " متعلق ب " ليُنْذِرَ " . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً ل " بَأساً " ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " شديداً " .

والبأس مأخوذ من قوله : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] و { مِّن لَّدُنْهُ } أي : صادراً من عنده .

فصل

قال الزجاج : وفي " لدُن " لغات يقال : لَدُ ، ولدُنْ ، ولَدَى بمعنى واحدٍ ، وهي لا تتمكن ممكن " عند " ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي ، ولا يقال : صوابٌ لدني ، ويقال : عندي مالٌ عظيمٌ ، [ والمال ]{[20787]} غائب عنك ، ولدني لما يليك لا غير .

وقرئ " {[20788]} ويُبشِّرُ " بالرفع على الاستئناف . والمراد بالأجر الحسن الجنة .


[20785]:سقط من أ.
[20786]:في ب: تغيير.
[20787]:في ب: وهو.
[20788]:ينظر: البحر المحيط 6/95.