اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا} (97)

قوله : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } الآية .

لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة ، وأردفها بالوعيد بقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } على الإجمال ، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل ، فقال : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } .

المراد تسليةُ الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً ، وجب أن يصيروا مؤمنين ، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل ، استحال أن ينقلبوا عن ذلك .

واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال ، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة ؛ وتارة على منع الألطاف ، وتارة على التَّخلية ، وعدم التعرُّض لهم بالمنع . والواو مندرجة تحت القول ، فيكون محلُّها نصباً ، وأن يكون من كلام الله ، فلا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، ويكون في الكلام التفاتٌ ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ } .

وحمل على لفظ " مَنْ " في قوله " فَهُوَ المُهتدِ " فأفرد ، وحمل على معنى " من " الثانية في قوله " ومَن يُضلِلْ ، فلنْ تَجدَ لَهُم " ، [ فجمع ] .

ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم- : أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل ، ناسبه التوحيد ، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ ؛ نحو : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام 153 ] ناسب الجمع الجمع ، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى ، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ ، قال أبو حيان : " وهو قليل في القرآن " ، يعني : بالنسبة إلى غيره ، ومثله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته .

وقرأ نافعٌ ، وأبو عمرو بإثبات{[20714]} ياء " المهتدي " وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وكذلك في التي تحت هذه السورة ، وحذفها الباقون في الحالين .

قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } يجوز أن يتعلق الجار في قوله { على وُجُوهِهِمْ } بالحشر ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول ، أي : كائنين ومسحوبين على وجوههم .

فإن قيل : كيف يمكنهم المشي على وجوههم ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنَّهم يسحبون على وجوههم ، قال تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .

والثاني : قال أبو هريرة : قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : " الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ " {[20715]} .

قوله : " عُمْياً " يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير ، أو بدلاً من الأولى ، وفيه نظر ؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل ، وهي : كلٌّ من كلٍّ ، ولا بعض من كلٍّ ، ولا اشتمال ، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [ في الجارِّ ] لوقوعه حالاً ، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في " وُجوهِهمْ " .

فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه

قال رجل لابن عباس : أليس أنه تعالى يقول : { وَرَأَى المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] .

وقال : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .

وقال : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .

وقال : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .

وقال حكاية عن الكفَّار : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

وأثبت لهم الرؤية ، والكلام ، والسَّمع ، فكيف قال ههنا : " عُمياً وبُكماً وصُماً " ؟ .

فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه :

الأول : قال ابن عباس : " عُمْياً " : لا يرون شيئاً يسرهم ، و " صُمًّا " : لا يسمعون شيئاً يسرهم ، و " بُكْماً " لا ينطقون بحجَّة{[20716]} .

والثاني : في رواية عطاء : " عُمْياً " عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه ، و " بُكْماً " عن مخاطبة الله تعالى ، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين{[20717]} .

الثالث : قال مقاتلٌ : حين قال لهم : { اخسَئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] يصيرون صمًّا بكماً ، أما قبل ذلك ، فهم يرون ، ويسمعون ، وينطقون{[20718]} .

الرابع : أنَّهم يكونون رائين ، سامعين ، ناطقين في الموقف ، ولولا ذلك ، لما قدروا على مطالعة كتبهم ، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم ، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار ، صاروا صمًّا ، وبكماً ، وعمياً .

وقيل : يحشرون على هذه الصفة{[20719]} .

قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يجوز في هذه الجملة الاستئناف ، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور .

قوله : " كُلَّما خَبتْ " يجوز فيها الاستئناف ، والحالية من " جهنَّم " ، والعامل فيها معنى المأوى .

وخَبتِ النَّار تَخْبُوا " إذا سكن لهيبها ؛ قال الواحدي : خبت سكنت ، فإذا ضعف جمرها ، قيل : خمدتْ ، فإذا طفئت بالجملة ، قيل : همدتْ ؛ قال :

وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْ *** دَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ{[20720]}

وقال آخر : [ الهزج ]

لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْ *** حِ عند البَيتِ ما تَخْبُو

إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ{[20721]}

وأدغم التاء في زاي{[20722]} " زِدْنَاهُمْ " أبو عمرو ، والأخوان ، وورش ، وأظهرها الباقون .

قوله : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .

قال ابن قتيبة : زدناهم تلهُّباً .

فإن قيل : إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب . وقوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت .

فالجواب : أن قوله " كُلَّما خَبَتْ " يقتضي سكون لهب النار ، أما أنه يدل على تخفيف العذاب ، فلا ؛ لأنَّ الله تعالى قال : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] .

وقيل : معناه : " كلَّما خبت " [ أي : ] كلما أرادت أن تخبو { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي : وقوداً .

وقيل : المراد من قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } أي : نضجت جلودهم ، واحترقت ، أعيدوا إلى ما كانوا عليه .


[20714]:ينظر: السبعة 386، والنشر 2/309، والتيسير 142، والإتحاف 2/205، والدر المصون 4/421.
[20715]:أخرجه البخاري (8/378) ومسلم (4/2161) من حديث أنس بن مالك.
[20716]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/51).
[20717]:ينظر: المصدر السابق.
[20718]:ينظر: الرازي (21/51).
[20719]:ينظر: المصدر السابق.
[20720]:البيت لعدي بن زيد ينظر: ديوانه ص 85، الدرر 3/88، لسان العرب "وسط" ، همع الهوامع 1/201، الدر المصون 4/421.
[20721]:البيتان لعمرو بن ربيعة وهما في ديوانه هكذا: لمن نار قبيل الصب ـح عند البيت ما تخبو إذا ما أوقدت يلهـــى ......................... ينظر: ديوانه 31، الكامل 3/117، البحر المحيط 6/67، اللسان والتهذيب "ذا"، الدر المصون 4/421.
[20722]:ينظر: الإتحاف 2/205، والنشر 2/5.