اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمۡ يَتَّخِذۡ وَلَدٗا وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِي ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلِيّٞ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِيرَۢا} (111)

واعلم أنه تعالى ، لمَّا أمر بأن لا يذكر ، ولا ينادى ، إلا بأسمائه الحسنى ، علَّم كيفيَّة التمجيد ؛ فقال :

{ وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .

فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال :

الأول : أنه لم يتخذ ولداً ، والسَّببُ فيه وجوهٌ :

أولها : أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء ، فكلُّ من له ولدٌ ، فهو مركبٌ من الأجزاء ، والمركَّب محدثٌ ، والمحدث محتاجٌ ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ .

وثانيها : أنَّ كل من له ولدٌ ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده ، فإذا يكن له ولدٌ ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده .

وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه ، فلو كان له ولد ، لكان منقضياً فانياً ، ومن كان كذلك ، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات ؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق .

وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وردٌّ على النصارى في قولهم { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] وعلى مشركي العرب في قولهم : " المَلائِكةُ بنَاتُ الله " .

والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك } .

والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة : أنَّه لو كان له شريكٌ ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر .

والنوع الثالث : قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل } .

والسببُ في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ ، لم يجب شكره ؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام .

أما إذا كان منزَّهاً عن الولد ، وعن الشَّريك ، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر .

قوله : { مِّنَ الذل } : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها صفة ل " وليّ " ، والتقدير : وليٌّ من أهل الذلِّ ، و المراد بهم : اليهود والنصارى ؛ لأنهم أذلُّ الناس .

والثاني : أنها تبعيضية .

الثالث : أنها للتعليل ، أي : من أجل الذلِّ ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال : " وليٌّ من الذلِّ : ناصر من الذلِّ ، ومانع له منه ؛ لاعتزازه به ، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به ؛ ليدفعها بموالاته " .

وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [ الآية : 24 ] .

فصل في معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً }

معنى قوله : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ، أي : أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير ، والمعنى : عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ ، أو وليٌّ ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - " أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع : لا إله إلا الله ، و الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت " {[20775]} .

ختام السورة:

فصل

روى أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل ، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ ، ومِائتَا أوقيَّةٍ ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا " {[1]} .

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : قول العبد : " الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا " وهذه الآية خاتمة التَّوراة{[2]} .

وروى مطرفٌ ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ ، قال : " افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ " {[3]} .

وروى عمرُو بنُ شعيب ، عن أبيه ، عن جدِّه ، قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ ، عَلَّمهُ : الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية{[4]} .

وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ : سَمعْتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : مَنْ قَرَأ : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ } الآية ، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ ؛ لأنَّ الله تعالى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً }{[5]} [ مريم : 90 ] .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[20775]:أخرجه مسلم (3/1685) كتاب الأدب: باب كراهية التسمية بالأسماء القبيحة ونحوه (12/2137). من حديث سمرة بن جندب.