اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا} (106)

قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } الآية : في نصب " قُرْآناً " أوجه :

أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : " وآتَيْناكَ قُرآناً " يدل عليه قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى } [ الإسراء : 101 ] .

الثاني : أنه منصوبٌ ؛ عطفاً على الكاف في " أرْسَلْنَاكَ " ؛ قال ابن عطية : " من حيثُ كان إرسالُ هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ " .

الثالث : أنه منصوب ؛ عطفاً على " مُبشِّراً ونذيراً " قال الفراء{[20748]} : " هو منصوبٌ ب " أرْسَلناكَ " ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً ؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ " ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة ؛ مبالغة ، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ ، كان أقرب ، أي : " وذا قرآنٍ " وهذان الوجهان متكلَّفان .

الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ ؛ لعدم مسوغٍ ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآناً أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و " فَرقْنَاهُ " على هذا : لا محل له ؛ بخلاف الأوجه المتقدمة ؛ فإن محلَّه النصب ؛ لأنَّه نعتٌ ل " قُرآناً " .

وقرأ العامة " فَرقْناهُ " بالتخفيف ، أي : بيَّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ{[20749]} عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميدٌ في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ ، وحكمٍ وأحكامٍ ، ومواعظ وأمثال ، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة .

والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم .

قال الزمخشريُّ : " وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنَّ " فرقَ " بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ " .

قال أبو حيان : " وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهرٍ ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين ؛ قال ابن عبَّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ ، عن ابن عباس " .

قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنَّ القول بالتنجيم : ليس مرويًّا عن ابن عباس ، ولاسيما وقد فصل قوله " قَالَ ابن عبَّاسٍ " من قوله " وقال بعض من اختار ذلك " ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس ؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ " فَعَّل " بالتشديد لا يدلُّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع{[20750]} .

قال ابن الخطيب{[20751]} : والاختيار عند الأئمة : " فَرقْنَاهُ " بالتخفيف ، وفسَّره أبو عمرو : بيَّناه .

قال أبو عبيدة : التخفيف أعجبُ إليَّ ؛ لأنَّ معناه : بينَّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً ، [ فالتفرُّق ]{[20752]} يتضمَّن التَّبيين ، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال : فَرقتُ ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعانِ بالخِيَارِ ، ما لمْ يتفرَّقا " {[20753]} ولم يقل : " يَفْترِقَا " .

فصل في نزول القرآن مفرقاً

قال ابن الخطيب{[20754]} : إنَّ القوم قالوا : هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز ؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل ؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل .

قال سعيد بن جبير{[20755]} : نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى ، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطَّعناه آية آية ، وسورة وسورة .

قوله : " لتَقْرَأهُ " متعلق ب " فَرقْنَاهُ " ، وقوله " عَلَى مُكْثٍ " فيه ثلاثةُ أوجه :

الأول : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل ، أو المفعول في " لتَقْرَأهُ " ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً .

الثاني : أنه بدلٌ من " عَلَى النَّاس " قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ ؛ لأنَّ قوله " عَلى مُكثٍ " من صفاتِ القارئ ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى ، لا من صفات الناس ؛ حتى يكون بدلاً منهم .

الثالث : أنه متعلق ب " فَرقنَاهُ " .

قال أبو حيان : " والظاهر تعلق " عَلى مُكثٍ " بقوله " لتَقْرأهُ " ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين ؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهِّلاً مترسلاً " .

قال شهاب الدين : قوله أولاً : إنه متعلق بقوله " لِتقْرَأهُ " : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالاً ، تعلق بمحذوفٍ ، لا يقال : أراد التعلق المعنوي ، لا الصناعي ؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى .

والمُكْثُ : التَّطاولُ في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمُّ ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ ، وأبو البقاء{[20756]} - والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمتُ ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النَّمل [ الآية : 22 ] ومعنى " عَلى مُكْثٍ " أي على تؤدةٍ ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على الحدِّ المذكور .


[20748]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/132.
[20749]:ينظر: المحتسب 2/23، والقرطبي 10/219، والبحر 6/84، والدر المصون 4/527.
[20750]:في ب: الكتاب.
[20751]:ينظر: الفخر الرازي 21/58.
[20752]:في ب: ما الفرق.
[20753]:أخرجه البخاري 4/384، في كتاب البيوع: باب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع (2109) وأبو داود في السنن 3/273، في كتاب البيوع: باب في خيار المتبايعين (3455) ومسلم في 3/1763 كتاب البيوع: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (43 / 1531).
[20754]:ينظر: الفخر الرازي 21/57.
[20755]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/57).
[20756]:ينظر: الإملاء 2/97.