قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } الآية : في نصب " قُرْآناً " أوجه :
أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : " وآتَيْناكَ قُرآناً " يدل عليه قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى } [ الإسراء : 101 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ ؛ عطفاً على الكاف في " أرْسَلْنَاكَ " ؛ قال ابن عطية : " من حيثُ كان إرسالُ هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ " .
الثالث : أنه منصوب ؛ عطفاً على " مُبشِّراً ونذيراً " قال الفراء{[20748]} : " هو منصوبٌ ب " أرْسَلناكَ " ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً ؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمةٌ " ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة ؛ مبالغة ، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ ، كان أقرب ، أي : " وذا قرآنٍ " وهذان الوجهان متكلَّفان .
الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قُرآناً فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحُّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ ؛ لعدم مسوغٍ ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآناً أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و " فَرقْنَاهُ " على هذا : لا محل له ؛ بخلاف الأوجه المتقدمة ؛ فإن محلَّه النصب ؛ لأنَّه نعتٌ ل " قُرآناً " .
وقرأ العامة " فَرقْناهُ " بالتخفيف ، أي : بيَّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ{[20749]} عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميدٌ في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ ، وحكمٍ وأحكامٍ ، ومواعظ وأمثال ، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة .
والثاني : أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم .
قال الزمخشريُّ : " وعن ابن عباس : أنه قرأ مشدداً ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنَّ " فرقَ " بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ " .
قال أبو حيان : " وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهرٍ ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين ؛ قال ابن عبَّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ ، عن ابن عباس " .
قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنَّ القول بالتنجيم : ليس مرويًّا عن ابن عباس ، ولاسيما وقد فصل قوله " قَالَ ابن عبَّاسٍ " من قوله " وقال بعض من اختار ذلك " ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس ؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ " فَعَّل " بالتشديد لا يدلُّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع{[20750]} .
قال ابن الخطيب{[20751]} : والاختيار عند الأئمة : " فَرقْنَاهُ " بالتخفيف ، وفسَّره أبو عمرو : بيَّناه .
قال أبو عبيدة : التخفيف أعجبُ إليَّ ؛ لأنَّ معناه : بينَّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً ، [ فالتفرُّق ]{[20752]} يتضمَّن التَّبيين ، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال : فَرقتُ ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ ؛ ويدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعانِ بالخِيَارِ ، ما لمْ يتفرَّقا " {[20753]} ولم يقل : " يَفْترِقَا " .
قال ابن الخطيب{[20754]} : إنَّ القوم قالوا : هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز ؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل ؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل .
قال سعيد بن جبير{[20755]} : نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى ، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطَّعناه آية آية ، وسورة وسورة .
قوله : " لتَقْرَأهُ " متعلق ب " فَرقْنَاهُ " ، وقوله " عَلَى مُكْثٍ " فيه ثلاثةُ أوجه :
الأول : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل ، أو المفعول في " لتَقْرَأهُ " ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً .
الثاني : أنه بدلٌ من " عَلَى النَّاس " قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ ؛ لأنَّ قوله " عَلى مُكثٍ " من صفاتِ القارئ ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى ، لا من صفات الناس ؛ حتى يكون بدلاً منهم .
الثالث : أنه متعلق ب " فَرقنَاهُ " .
قال أبو حيان : " والظاهر تعلق " عَلى مُكثٍ " بقوله " لتَقْرأهُ " ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين ؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهِّلاً مترسلاً " .
قال شهاب الدين : قوله أولاً : إنه متعلق بقوله " لِتقْرَأهُ " : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالاً ، تعلق بمحذوفٍ ، لا يقال : أراد التعلق المعنوي ، لا الصناعي ؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى .
والمُكْثُ : التَّطاولُ في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمُّ ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ ، وأبو البقاء{[20756]} - والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمتُ ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النَّمل [ الآية : 22 ] ومعنى " عَلى مُكْثٍ " أي على تؤدةٍ ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } على الحدِّ المذكور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.