اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكهف قال ابن عباس مكية غير أربعين آية منها ، وهي مائة وعشر آيات ، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا .

قال ابن الخطيب{[20781]} : تقدم الكلام في الحمد ، والذي أقوله ها هنا : إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ؛ ألا ترى أنه يقال : " سبحان الله والحمد لله " .

وإذا عرف هذا ، فنقول : إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } .

ثم قال{[20782]} : والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق .

والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } [ الأعراف : 54 ] .

واعلم : أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه ، وخصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر ؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ .

أما كونه نعمة عليه ؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر ، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وذلك من أعظم النِّعم ، وأمَّا كونه نعمة علينا ؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [ والوعيد ] والثوابِ والعقاب ، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه .

قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } : في هذه الجملة أوجهٌ ، أحدها : أنها معطوفة على الصلة قبلها . والثاني : أنها اعتراضية بين الحال وهي " قَيِّما " وبين صاحبها وهو " الكتاب " . والثالث : أنها حالٌ من " الكتاب " ، ويترتب على هذه الأوجه القول في " قَيِّماً " .

قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجه : الأول : أنه حال من " الكتاب " . والجملة من قوله " ولم يجعل " اعتراض بينهما . وقد منع الزمخشري ذلك فقال : " فإن قلت : بم انتصب " قَيِّماً " ؟ قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ ، ولم يجعل حالاً من " الكتاب " لأن قوله " ولم يجعل " معطوف على " أنْزلَ " فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة " ، وكذلك قال أبو البقاء{[20783]} . وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة .

الثاني : أنه حالٌ من الهاءِ في " لهُ " . قال أبو البقاءِ : " والحالُ مؤكدة . وقيل : منتقلة " . قال شهاب الدين : القول بالانتقالِ لا يصحُّ .

الثالث : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : جعله قيِّماً . قال الزمخشري : " تقديره : ولم يجعل له عوجاً ، جعله قيِّماً ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة " .

قال : " فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر ؟ . قلت : فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح " .

الرابع : أنه حالٌ ثانية ، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً ، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ . والتقدير : أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً .

والخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال ، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز ، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله : " عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو " .

والضمير في " لَهُ " فيه وجهان ، أحدهما : أنه للكتاب ، وعليه التخاريج المتقدمة . والثاني : أنه يعود على " عبدِه " ، وليس بواضحٍ .

وقرأ العامة بتشديد الياء ، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة . وقد تقدَّم القولُ فيها .

ووقف حفص على تنوين " عِوَجاً " يبدله ألفاً ، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس ، إشعاراً بأنَّ " قيِّماً " ليس متصلاً ب " عوجاً " ، وإنما هو من صفة الكتاب . وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى .

قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة : " ولم يَجْعلْ له عوجاً ، لكن جعله قيِّماً " . وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على " عِوَجاً " ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفاً ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت .

ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، يعني الإطلاق . ثم قال : " وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التنوين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل " . انتهى .

وقال الأهوازيُّ : " ليس هو وقفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً " . قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقه .

وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ . فمنها : أنَّه كان يقف على " مَرْقدِنا " ، ويبتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } [ يس : 52 ] . قال : لئلاَّ يتوهَّم أنَّ " هذا " صفة ل " مَرْقدِنا " فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم . قيل : هم الملائكة . وقيل : المؤمنون . وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون " هذا " صفة ل " مَرْقدِنا " فيفوتُ ذلك .

ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نون " مَنْ " ويبتدئ " راقٍ " قال : " لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق " .

ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقف على لام بل ، ويبتدئ " ران " لما تقدَّم .

قال المهدويُّ : " وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية " . قال أبو شامة : " أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، ينبغي الوقف على " قَولهُم " لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ " ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار الذين يَحْمِلُونَ العرش } [ غافر : 6 ، 7 ] ينبغي أن يعتنى بالوقف على " النَّار " لئلا تتوهَّم الصفة .

قال شهابُ الدين : وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد . وقال أبو شامة أيضاً : " ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ " . يعني في " بل رانَ " وفي " مَنْ راقٍ " .

فصل

المعنى : ولم يجعل له عوجاً [ قيِّماً ] ، أي مختلفاً .

قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .

قال أهل اللغة : العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ .

وقيل : معناه لم يجعلهُ مخلوقاً .

روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] أي غير مخلوقٍ{[20784]} .


[20781]:ينظر: الفخر الرازي 21/62.
[20782]:ينظر: الفخر الرازي 21/63.
[20783]:ينظر: الإملاء 2/98.
[20784]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (5/611) وعزاه إلى الآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في "الأسماء والصفات".