اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} (110)

قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية .

قال ابن عباس{[20764]} : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : ( يا الله ، يا رحمن ) . فقال أبو جهلٍ : إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنَّهما اسمان لواحدٍ ، [ أي : ] أيَّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماءُ الحسنى .

قوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : [ " أيّاً " ] منصوب [ ب " تَدْعُوا " ] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيَّ الاسمين ، و " تَدْعُوا " مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله " فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى " . وقيل : هو محذوفٌ ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيءٍ .

والتنوين في " أيًّا " عوض من المضاف إليه ، وفي " ما " قولان :

أحدهما : أنها مزيدة للتأكيد .

والثاني : أنها شرطية جمع بينهما ؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر ؛ للتأكيد ، وحسَّنه اختلافُ اللفظ ؛ كقوله : [ الطويل ]

فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي *** عن بِمَا بِهِ . . . . . . . . . . . . . . {[20765]}

ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ{[20766]} " أيًّا من تدعُوا " فقيل : " مَنْ " تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ ؛ كقوله : [ الكامل ]

يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . {[20767]}

واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما ؛ تأكيداً لما تقدَّم ، و " تَدعُوا " هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداءُ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرِّ ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف ؛ كقوله : [ الطويل ]

دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20768]}

والتقدير : قل : ادعُوا معبودكم بالله ، أو بالرَّحمن ، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه ، وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى " سمَّى " الزمخشري .

ووقف الأخوان{[20769]} على " أيًّا " بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على " مَا " ؛ تبييناً لانفصال " أيًّا " من " مَا " ، ووقف غيرهما على " مَا " ؛ لامتزاجها ب " أيّ " ؛ ولهذا فصل بها بين " أي " ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا الأجلين } [ القصص : 28 ] ، وقيل : " ما " شرطية عند من وقف على " أيًّا " ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثم استأنف " مَا تدعوا ، فله الأسماء الحسنى " ، يعني أنَّ " ما " شرطٌ ثانٍ ، و " فَلهُ الأسماءُ " جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردودٌ بأنَّ " ما " لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً ، ولا يصحُّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً .

فصل

والمعنى : أيًّا ما تدعوا ، فهو حسنٌ ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان ؛ لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس .

واحتجَّ الجبائي{[20770]} بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقاً للظُّلم ، والجور ، لصحَّ أن يقال : يا ظالمُ ، حينئذٍ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة .

والجواب : أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد ، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ ، وجائرٌ ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود .

فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظُّلم والجور .

فالجواب : يلزمكم أن تقولوا : يا خالق العذرات ، والديدان ، والخنافس ؛ كما أنكم تقولون : ذلك حقٌّ في نفس الأمر ، وإنَّما الأدب أن يقال : يا خالق السَّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا .

ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } .

وروى سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عبَّاس{[20771]} في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون ؛ فيسبُّوا القرآن ، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم .

قوله : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك .

قوله : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .

روى أبو قتادة " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه ؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفعُ صوته ، فلما جاء النَّهار ، وجاء أبو بكرٍ وعمر ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هِيَ لَكَ ، مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرأ ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ ، فقال : إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ ، قَالَ : فَارفَعْ قليلاً ، وقَالَ لِعُمرَ : مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرَأ ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ ، فقال : إنِّي أوقظُ الوسْنانَ ، وأطردُ الشَّيطَانَ ، فقال : اخْفِضْ قليلاً " {[20772]} .

وقيل : المراد ( ولا تجهر بصلاتك كلها ) ، ولا تخافت بها كلها ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النَّهار .

وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيِّ ، ومجاهدٍ ، ومكحولٍ ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسألة{[20773]} .

قال عبد الله بن شدَّادٍ : كان أعرابٌ من بني تميم ، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } .

أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها .

والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ .

يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً ، إذا ضعف وسكن ، وصوتٌ خفيتٌ ، أي : خفيضٌ .

ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزَّرعُ ، إذا ذبل ، وخفت الرَّجل بقراءته ، يتخافتُ بها ، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارُّوا بينهم .

فصل في المستحب في الدعاء

واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبُّ التوسُّط ، وهو أن يسمع نفسه ؛ كما روي عن ابن مسعود{[20774]} : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه .

واعلم أن العدل هو رعاية الوسط ؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .

ومدح المؤمنين بقوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .

وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسُّط بينهما ، فقال : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .

وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى- : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] .

وهو بعيدٌ .


[20764]:ينظر: تفسير القرطبي (10/342) وأخرجه الطبري (8/165) بمعناه.
[20765]:تقدم.
[20766]:ينظر: البحر المحيط 6/87، الدر المصون 4/428.
[20767]:تقدم.
[20768]:تقدم.
[20769]:ينظر: التيسير 61، الإتحاف 2/206، الدر المصون 4/429.
[20770]:ينظر: الفخر الرازي 21/59.
[20771]:أخرجه البخاري (8/257) كتاب التفسير: باب ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها حديث (4722) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
[20772]:أخرجه أبو داود 2/81، في كتاب الصلاة باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1329)، والترمذي 2/39، في كتاب أبواب الصلاة: باب ما جاء في قراءة الليل (447)، والحاكم في المستدرك 1/310 في صلاة التطوع: باب تحريض قيام الليل (118).
[20773]:أخرجه البخاري (8/163) كتاب التفسير: باب سورة بني إسرائيل وذكره البغوي في "تفسيره" (3/142) عن عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول.
[20774]:أخرجه الطبري في "تفسيره " (8/171) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/376) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.