قوله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية .
قال ابن عباس{[20764]} : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكَّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : ( يا الله ، يا رحمن ) . فقال أبو جهلٍ : إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنَّهما اسمان لواحدٍ ، [ أي : ] أيَّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماءُ الحسنى .
قوله : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : [ " أيّاً " ] منصوب [ ب " تَدْعُوا " ] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيَّ الاسمين ، و " تَدْعُوا " مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله " فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى " . وقيل : هو محذوفٌ ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيءٍ .
والتنوين في " أيًّا " عوض من المضاف إليه ، وفي " ما " قولان :
والثاني : أنها شرطية جمع بينهما ؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر ؛ للتأكيد ، وحسَّنه اختلافُ اللفظ ؛ كقوله : [ الطويل ]
فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي *** عن بِمَا بِهِ . . . . . . . . . . . . . . {[20765]}
ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ{[20766]} " أيًّا من تدعُوا " فقيل : " مَنْ " تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ ؛ كقوله : [ الكامل ]
يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . {[20767]}
واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما ؛ تأكيداً لما تقدَّم ، و " تَدعُوا " هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداءُ ، فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرِّ ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف ؛ كقوله : [ الطويل ]
دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . {[20768]}
والتقدير : قل : ادعُوا معبودكم بالله ، أو بالرَّحمن ، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه ، وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى " سمَّى " الزمخشري .
ووقف الأخوان{[20769]} على " أيًّا " بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على " مَا " ؛ تبييناً لانفصال " أيًّا " من " مَا " ، ووقف غيرهما على " مَا " ؛ لامتزاجها ب " أيّ " ؛ ولهذا فصل بها بين " أي " ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا الأجلين } [ القصص : 28 ] ، وقيل : " ما " شرطية عند من وقف على " أيًّا " ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثم استأنف " مَا تدعوا ، فله الأسماء الحسنى " ، يعني أنَّ " ما " شرطٌ ثانٍ ، و " فَلهُ الأسماءُ " جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردودٌ بأنَّ " ما " لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً ، ولا يصحُّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً .
والمعنى : أيًّا ما تدعوا ، فهو حسنٌ ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان ؛ لأنهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس .
واحتجَّ الجبائي{[20770]} بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقاً للظُّلم ، والجور ، لصحَّ أن يقال : يا ظالمُ ، حينئذٍ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة .
والجواب : أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد ، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ ، وجائرٌ ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود .
فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظُّلم والجور .
فالجواب : يلزمكم أن تقولوا : يا خالق العذرات ، والديدان ، والخنافس ؛ كما أنكم تقولون : ذلك حقٌّ في نفس الأمر ، وإنَّما الأدب أن يقال : يا خالق السَّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا .
ثمَّ قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } .
وروى سعيد بن جبيرٍ ، عن ابن عبَّاس{[20771]} في هذه الآية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعُ صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون ؛ فيسبُّوا القرآن ، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم .
قوله : { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمعك أصحابك .
قوله : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
روى أبو قتادة " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم طاف باللَّيل على دور أصحابه ؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفعُ صوته ، فلما جاء النَّهار ، وجاء أبو بكرٍ وعمر ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : هِيَ لَكَ ، مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرأ ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ ، فقال : إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ ، قَالَ : فَارفَعْ قليلاً ، وقَالَ لِعُمرَ : مَررْتُ بِكَ ، وأنْتَ تَقْرَأ ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ ، فقال : إنِّي أوقظُ الوسْنانَ ، وأطردُ الشَّيطَانَ ، فقال : اخْفِضْ قليلاً " {[20772]} .
وقيل : المراد ( ولا تجهر بصلاتك كلها ) ، ولا تخافت بها كلها ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النَّهار .
وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيِّ ، ومجاهدٍ ، ومكحولٍ ، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسألة{[20773]} .
قال عبد الله بن شدَّادٍ : كان أعرابٌ من بني تميم ، إذا سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } .
أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها .
والمُخَافتَةُ : خفض الصَّوت والسُّكوتُ .
يقل : خفت صوته يخفته خفوتاً ، إذا ضعف وسكن ، وصوتٌ خفيتٌ ، أي : خفيضٌ .
ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزَّرعُ ، إذا ذبل ، وخفت الرَّجل بقراءته ، يتخافتُ بها ، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارُّوا بينهم .
واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبُّ التوسُّط ، وهو أن يسمع نفسه ؛ كما روي عن ابن مسعود{[20774]} : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه .
واعلم أن العدل هو رعاية الوسط ؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] .
ومدح المؤمنين بقوله : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] .
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] فكذا ههنا : نهى عن الطَّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسُّط بينهما ، فقال : { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله - تعالى- : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.