اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَبِٱلۡحَقِّ أَنزَلۡنَٰهُ وَبِٱلۡحَقِّ نَزَلَۗ وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا} (105)

قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } الآية .

لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } [ الإسراء : 88 ] .

ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر ، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ :

منها : أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى الله عليه وسلم ثمَّ كفروا بها ؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائزٍ في الحكمة ؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ . لمَّا تمَّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن ؛ فقال : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } ، أي : ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ .

قوله : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } : في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب " أنْزَلْنَاهُ " ، و الباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقِّ .

والثاني : أنه حال من مفعول " أنْزَلنَاهُ " ، أي : ومعه الحقُّ .

فتكون الباء بمعنى " مَعَ " قاله الفارسي ؛ كما تقول : نزل بعدَّته ، وخرج بسلاحه .

والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف .

والضمير في " أنْزلْنَاهُ " الظاهر عوده للقرآن : إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً ، ثم يعود إلى كلامه الأول . وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً ؛ لدلالة الحال عليه ؛ كقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقيل : يعود على موسى ؛ كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التِّسعِ ، وذكر الضمير ، وأفرده ؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان .

قوله : " وبالحقِّ نَزلَ " فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث ؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقِّ ؛ كما تقول : نزلت بزيدٍ ، وعلى هذا التقدير : فالحق محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها للتأكيد ؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل ؛ فجيء بقوله " وبالحقِّ نَزلَ " ؛ دفعاً لهذا الوهم ، وقيل : ليست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير بين الحقَّين ، فالحق الأول التوحيد ، والثاني الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، وقال الزمخشري : " وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة ؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ ، أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين " ، و " مبشِّراً ونذيراً " : حالان من مفعول " أرْسلْنَاكَ " مبشراً للمطيعين ، ونذيراً للعاصين ، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ ، انتفعوا به ، وإلا فليس عليك من كفرهم [ شيءٌ ]{[20747]} .


[20747]:سقط من ب.