اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗا فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرۡجُواْ ٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (36)

قوله تعالى : «وإلَى مَدْيَنَ » أي وأرسلنا ، أو بعثنا إلى مدين أخاهم «شعيباً » بدل ، أو بيان ، أو بإضمار : أعني{[41446]} ، قيل : مدين : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة ، كتَمِيم ، وقيسٍ وغيرهما ، وقيل : اسم ما نسب القوم{[41447]} إليه فاشتهر في القوم ، والأول أظهر ، لأن الله تعالى أضافه{[41448]} إلى مدين بقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } ولو كان اسم الماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية فالأصل في الإضافة التغاير حقيقة{[41449]} وقوله : «أخاهم » ، قيل : لأن شعيباً كان منهم نسباً .

فإن قيل : قال الله ( تعالى ){[41450]} في «نوح » : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } فقدم{[41451]} نوحاً في الذِّكْرِ وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ، ولوط ، وههنا ذكر القوم أولاً ، وأضاف إليهم أخاهم «شعيباً » فما الحكمة ؟ .

فالجواب : أن الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم{[41452]} لأن الرسل لا تبعث إلا{[41453]} غير معينين ، وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل إليهم من يختاره{[41454]} ، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم{[41455]} اسم خاص ، ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها ، فعرفوا بالنبي ، فقيل : قوم نوح ، وقوم لوط ، وأما قوم «شعيب » و «هود » و «صالح » فكان لهم نسبٌ معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله ، وقال{[41456]} الله : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } ، { وإلى عاد أخاهم هوداً } فإن قيل : لم يذكر عن «لوط » أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك .

فالجواب قد تقدم وهو أن «لوطاً » كان من قوم «إبْرَاهِيمَ » ، وفي زمانه ، وكان إبْراهيمُ سبقه بذلك ، واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند{[41457]} الخلق عن «إبراهيم » فلم يحتج{[41458]} «لوطٌ » إلى ذكره ، وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها ، وإن كان هو بدأ يأمر بالتوحيد ، ( إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلاماً في التوحيد ، وأما «شعيب » فكان بعد انقراض ذلك الزمان ، وذلك القوم ، فكان هو أصلاً في التوحيد ){[41459]} فبدأ به وقال{[41460]} اعبدوا الله .

قوله : { وارجوا اليوم الآخر } ، قال الزمخشري{[41461]} : معناه افعلوا فعل من يَرْجُو اليومَ الآخر ؛ إذ يقول القائل لغيره : كن عاقلاً ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلاً ، فقوله : { وارجوا اليوم الآخِرَ } بعد قوله : «واعْبُدُوا اللَّهَ » يدل على التفضل لا على الوجوب .

قوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ، تقدم الكلام عليه{[41462]} ، ونصب «مفسدين » على المصدر ، كقول القائل : اجلس قعوداً .


[41446]:انظر: البيان 2/244، والدر المصون للسمين 4/304، وقد أعرب أبو البقاء "شعيباً" معطوفاً على "نوحاً"، انظر: التبيان 2/1033.
[41447]:في ب: الماء.
[41448]:في ب: أضاف بدون ضمير.
[41449]:فهي لغة مطلق الإسناد، واصطلاحاً: إسناد اسم آخر على تنزيل الاسم الثاني من الأول منزلة تنوينه، أو ما يقوم مقام التنوين في تمام الكلمة، أو هي نسبة تقييدية بين اسمين تقتضي أن يكون ثانيهما مجروراً فالنسبة هي الإسناد والحكم، ومعنى هذا كله أن هناك تغايراً وفرقاً بين كلمتين.
[41450]:ساقط من أ.
[41451]:في ب: قدم.
[41452]:في ب: رسولاً لهم.
[41453]:في ب: إلى غير معينين.
[41454]:في ب: اختاره.
[41455]:في ب: ولم يكن.
[41456]:في ب: فقال.
[41457]:في ب: فإن قيل: إنه.
[41458]:في ب: قد يحتج على لوط إلى ذكره.
[41459]:ساقط من ب.
[41460]:في "ب" فقال.
[41461]:انظر: الكشاف 3/205.
[41462]:يقصد أن هذه الآية مكررة في البقرة، والأعراف، وهود، والشعراء بأرقام 60 و 74 و 85 و 183 وقد فهم من هذه الآيات عند التعرض لها أن هؤلاء القوم كانوا يفعلون ذلك مع توليهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك، ويقال: عثا في الأرض وعثي وعاث وذلك نحو قطع الطريق والإغارة وإهلاك الزروع. انظر: اللباب البقرة ميكروفيلم.