اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱقۡتُلُوهُ أَوۡ حَرِّقُوهُ فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (24)

قوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } العامة على نصبه والحسن وسالم الأفْطَس{[41267]} برفعه وتقدم تحقيق هذا . هذه الآيات في تذكير أهل إبراهيم وتحذيرهم وهي معترضة في قصة «إبراهيم » صلوات الله عليه ، ثم عاد إلى قصة «إبراهيم » فقال تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } . لما أقام إبراهيم صلوات{[41268]} الله عليه البرهان على الأصول الثلاثة لم يجيبوه إلا بقولهم { اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } فإن قيل : كيف سمى قولهم : اقتلوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟ .

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنه خرج مَخْرَجَ كلام{[41269]} متكبر ، كما يقول المَلِكُ لرسول خَصْمِهِ : جوابكُمُ السيفُ ، مع أن السيفَ ليس بجوابِهِ وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل{[41270]} بالسيف .

وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان ( ضلالتهم ){[41271]} وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبيّن أنهم لم يكن لهم جوابٌ أصلا ، وذلك أن من لا يجيبُ غيره ويسكت لا يعلم ( أنه لا يقدر{[41272]} أم لا ) لجواز{[41273]} أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، وأما إذا أجاب بجوابٍ فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه .

فصل{[41274]} :

«أو » تذكر لأمرين الثاني منهما لا ينفك عن الأول ، كما يقال : «زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ » ، ويقال : هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنساناً فهو حيوان ، ولا يصح أن يقال : «هذا حيوان أو إنسان » إذ يفهم منه أن يقول : هذا حيوان ، فإن لم يكن حيواناً فهو إنسان ، وهذا فاسد ، وإذا كان كذلك فالتحريق مشتمل{[41275]} على القتل ، فقوله : «اقتلوه أو حرقوه » كقولك : هذا إنسان أو حيوان .

فالجواب عن{[41276]} هذا من وَجْهَيْنِ :

أحَدهمَا : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع كقولك : أعطه ديناراً أو دينَارَيْنِ .

قال تعالى : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [ المزمل : 2 - 4 ] فكذا{[41277]} هاهنا قال : اقتلوه أو زيدوا على القتل لأن التحريق قتلٌ وزيادة .

الثاني : سلمنا ما ذكرتم ، والأمر هنا كذلك لأن التحريق فعل مفض{[41278]} إلى القتل ، وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقي في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حياً يصح{[41279]} أن يقال : احترق فلانٌ ، وأحرق وما مات .

فكذلك هاهنا قال : اقتلوه ولا تعجلوا قتله وعَذَّبُوه بالنار ، فإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصرَّ فاتركوه في النار .

قوله تعالى : { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } ، قيل : بردت النار وقيل : خلق في إبراهيم صلوات الله ( وسلامه ){[41280]} عليه كيفية اسْتَبْرَدَتِ النارَ . وقيل : ترك إبراهيم ( على ){[41281]} ما كان عليه ( والنار على{[41282]} ما كانت عليه ) وَمنع أذى النار عنه ، والْكُلّ ممكنٌ والله قادر عليه .

قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك «آية للعالمين » في إنجاء نوح صلوات الله ( وسلامه ){[41283]} عليه وأصحاب السفينة جعلناها آية وقال هاهنا آيات بالجمع ، فما الحكمة ؟ .

فالجواب : إن إنجاء السفينة شيء يتسع له{[41284]} العقول ، فلم يكن فيه من الآية إلا إعلام الله تعالى إياه بالإنجاء وقت الحاجة بسبب أن الله تعالى صان{[41285]} السفينة عن المهلكات كالرياح ، وأما الإنجاء من النار فعجيب فقال فيه لآيات فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا : «آيةٌ لِلْعَالَمِينَ » وقال هنا «لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » فخص الآيات بالمؤمنين ؟ .

فالجواب : أن السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد ، وأما تبريد النار فلم يبق فلم يظهر ( لمن بعده ) إلا بطريق الإيمان والتصديق ، وفيه لطيفة ( وهو ){[41286]} أن الله تعالى لما بَرَّد النار على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه و هدايته لأبناء جنسه ، وقد قال الله تعالى للمؤمنين بأن لهم أسوة في إبراهيم ، فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله تبارك وتعالى يبرد عنه النار يوم القيامة ، فقال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، فإن قيل : لم قال هناك : «جَعَلْنَاها » ، ( وقال هنا جَعَلْنَاهُ ){[41287]} ؟ .

فالجواب : لأن السفينة ما صارت آية في نفسها ، ولولا خلق الله الطوفان لبقي فعل نوح ( سفهاً ){[41288]} فالله تعالى جعل السفينة بعد وجودها آية ، وأما تبريد النار فهو في نفسه ( آية ){[41289]} إذا وجدت لا تحتاج إلى شيء آخر كخلق الطوفان حتى يصير آيةً .


[41267]:سالم الأفطس: سالم بن عجلان مولى محمد بن مروان بن الحكم أبو محمد الكوفي الأفطس، عن سعيد بن جبير، وعنه الثوري، له نحو ستين حديثاً، وثقه أحمد، وقال أبو حاتم: صدوق، مات مقتولاً سنة 132 هـ. انظر: خلاصة الكمال 132.
[41268]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[41269]:في ب: مخرج التكبر.
[41270]:في ب: وما أقابل إلا بالسيف.
[41271]:ساقط من ب.
[41272]:في ب: أنه قد يقدر على الجواب أم لا وفي تفسير الفخر: "لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب".
[41273]:في ب: ويجوز أن يكون.
[41274]:سقط لفظ "فصل" من ب.
[41275]:في ب: يشتمل بالفعلية.
[41276]:في ب: على هذا.
[41277]:في ب: وهكذا.
[41278]:في ب: يفضي.
[41279]:في ب: فصح.
[41280]:ما بين القوسين زيادة من ب.
[41281]:زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي.
[41282]:ساقط من ب.
[41283]:زيادة من ب.
[41284]:في ب: تسعة.
[41285]:في ب: أصاب. وهو تحريف.
[41286]:ساقط من ب.
[41287]:ساقط من ب.
[41288]:ساقط من ب.
[41289]:ساقط من ب.