اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

وقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } الواو للعطف على قوله : " وَجِيهًا " ، والتقدير : وجيهاً ومُكَلَّماً .

قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيفٌ ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [ أو لفائدة ]{[5434]} ، والأوْلَى أن يُقال : تقدير الآيةِ : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، الوجيه في الدنيا والآخرة ، المعدود من المقرَّبِينَ ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } . فقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } عطف على قوله : { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُك } .

وأجيب بأن هذا خطأ ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ } فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية ، فوقع فيما فَرَّ منه . وإن أراد العطفَ على " يُبَشِّرُكِ " فهو خطأ ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و " يُبَشِّرُكِ " خبر - فيصير التقدير : إن الله يكلم الناسَ في المهدِ ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً ، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم ، فجاز العطف .

قوله : { فِي الْمَهْدِ } يجوز فيه وَجْهَان :

أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير في { وَيُكَلِّمُ } أي : يكلمهم صَغِيراً ، و " كَهْلاً " على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال .

والثاني : أنه ظرف ل " يُكَلِّمُ " كسائر المنفصلات ، و " كَهلاً " على هذا نَسَق على " وَجِيهاً " فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ .

والكهل : هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة ، وأولها ثلاثون .

وقيل : اثنان وثلاثون .

وقيل : ثلاث وثلاثون .

وقيل : أربعون . وآخرها : خمسون .

وقيل : ستون . ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ . واشتقاقه من : اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل .

وقال صاحبُ المُجْمَلِ : " أكهل الرجل : وَخَطَهُ الشَّيْبُ " .

فصل

كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله :

[ مريم : 30-33 ]

وحكي عن مجاهدٍ قال : قالت مريم : كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته ، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ .

فصل

ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده ، قال : " لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب يوسف ، وصاحب جُرَيْج " .

[ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج وصاحب الجبار ]{[5435]} " {[5436]}

وقال الضَّحَّاكُ : " تكلم في المهد ستة شاهد يوسف ، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج{[5437]} " ولم يذكر صاحب الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود ، وبه يكون المتكلمون سبعةً .

قال القرطبيُّ : " ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام - : " لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ " بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ ، ثم بعد هذا أعلمه الله - تعالى - بما شاء من ذلك ، فأخْبَرَ به .

والمهدُ : ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه ، من مَهَّدت له المكان - أي : وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ : أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر ، فسُمِّي به المكانُ ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر . وقد قرئ : مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

قال ابن الخطيب [ قوله : وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة ، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان .

قال الحسين بن الفضل : في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد ] {[5438]} أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد ، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها ، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ ، يمتنع إخفاؤه . وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح ، حتى ادَّعَوْا ألوهيته ، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه ، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً .

وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه ، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء ، فنسبهم الناس إلى الكذب ، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على معجزته ، وصدقه .


[5434]:سقط في ب.
[5435]:أخرجه البخاري (4/320) كتاب الأنبياء: باب واذكر في الكتاب مريم (3436) ومسلم (4/1976) وأحمد (2/301، 307، 308).
[5436]:سقط في ب.
[5437]:ذكره القرطبي في "تفسيره" الجامع لأحكام القرآن" (4/59) عن الضحاك.
[5438]:سقط في ب.