قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } من باب المقابلة ، أي : لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به . هكذا قيل ، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله :
{ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ } [ الأعراف : 99 ] والمكر في اللغة أصله الستر ، يقال : مكر اللَّيْلُ ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه .
قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخِداع ، والمكر : خَدَالةُ الساق ، والمكر : ضَرْب من النبات ويقال : بل هو المَغْرَة ، حكاه ابنُ فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخَلْق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البَطْن . ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد ، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ ، وذلك ضربان : محمود ، وهو أن يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ ، وعلى ذلك قوله : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . ومذموم ، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح ، نحو : { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }
أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فَهَمُّوا بقتله ، فذلك مكرهم به . وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه :
أحدها : أن مكر الله استدرَاج العبد ، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم ، كما قال { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] .
وقال الزّجّاج : " مكر الله " مجازاتهم على مكرهم ، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : { اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً ، وهو معنى قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [ البقرة : 87 ] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخِذ ، وصُلِب ، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ :
فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب . والأخْرَى قالت : ابن الله . والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحدٌ منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام ، ثم قالوا : وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم .
الثالث : قال محمدُ بنُ إسحاقَ : إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه السلام ، ولَقُوا منهم الجهد ، فبلغ ذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فقيل له : إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله ، وأراهم إحياء الموتَى ، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ ، وفَعَل وَفَعَل ، فقال : لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه .
ثم بعث إلى الحواريين ، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى ، فأخبروه وبايعوه على دينهم ، وأنزل المصلوب ، فغيبه ، وأخذ الخشبة ، فأكرمها وصانها ، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً ، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس ، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك ، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة ، فقتل وسبى ، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر ، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز ، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله .
الرابع : أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس ، فقتلهم ، وسباهم ، وهو قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ }
[ الإسراء : 5 ] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم .
الخامس : يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره ، وإبطال دينه ، ومكر الله بهم ، حيثُ أعلى دينَهُ ، وأظهر شَرِيعَتَهُ ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود .
وفي قوله : { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر ؛ إذ الأصل : ومكروا ومكر اللهُ ، وَهُوَ خَيرُ الْماكِرِينَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.