قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ } في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : قوله : { وَمَكَرَ اللَّهُ } أي : مكر الله بهم في هذا الوقت .
الثاني : { خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .
الثالث : أنه " اذكرْ " - مقدَّراً - فيكون مفعولاً به كما تقدم تقريره .
قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ، فيه وجهان :
أحدهما : وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي .
الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : رافعك إليَّ ومتوفيك ؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء ، ثم يتوفى بعد ذلك ، والواو للجمع ، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء .
ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى ، إلا أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه ، ونزوله إلى الأرض ، وحُكمِه بِشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديثِ . فعلى الأول ففيه وجوهٌ :
أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه .
الثاني : إني مُميتُك ، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله . وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قال وَهْبٌ : تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ ، ثم رُفِع وأحْيِيَ {[5515]} .
الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه {[5516]} .
الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء{[5517]} ، قال تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك .
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة- في زوال [ الشهوات ] {[5518]} والغضب والأخلاق الذميمة - .
خامسها : أن التَّوفِّيَ أخذ الشيء وافياً ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ ، لا جَسَدُهُ ، ذكر ذلك ؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده .
وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن .
وسابعها : أن التوفِّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي ، وتسلمتها منه . فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } تكراراً ، فالجواب : أن قوله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يدل على حُصُولِ التَّوفِّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ ، فلما قال : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } صار تعييناً للنوع ، فلم يكن تكراراً .
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ، ورافعك إليَّ ، أي : ورافع عملك إليّ ، كقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] والمرادُ منه : أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله ، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه ، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره ، ولا يهدر ثوابهُ .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً ، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ، فَيَفِيضُ الْمَالُ ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ " {[5519]} .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى : " وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال ، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ{[5520]} " .
وقيل للحُسَيْن بن الفضل : هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن ؟ قال : نعم ، قوله : { وَكَهْلاً } وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه : { وَكَهْلاً } بعد نزوله من السماء{[5521]} .
قال القرطبيُّ : " والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاة ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس " .
وقال الضحاك : وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً ، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ ، فأخذوا بباب الغرفة ، فقال المسيح للحواريين : أيُّكُمْ يخرج ، ويقتل ، ويكون معي في الجنة ؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله ، فألقَى إليه مدرعة من صوف ، وعمامة من صوفٍ ، ونَاوَلَه عُكَّازه ، وألقي عليه شبه عيسى ، فخرج على اليهود فقتلوه ، وصلبوه ، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ ، وألبسه النورَ ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ، فَطَارَ مع الملائكة ، ثم إن أصحابه تفرقوا ثلاث فرق :
فقالت فرقة : كان اللهُ فينا ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية .
وقالت فرقة : كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية .
وقالت فرقة : كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون{[5522]} .
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } [ الصف : 14 ] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى .
قوله : { وَرَافِعُكَ إلَيَّ } تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية ، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ :
أحدها : أن المراد إلى محل كرامتي ، كقول إبراهيم : " إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ " وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من " العراق " إلى " الشام " ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله ، والمجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم ، فكذا هاهنا .
وثانيها : أن معناه [ رافعك إلى مكان ] {[5523]} لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ ، أمَّا السماوات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ .
وثالثها : أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة ، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه .
قوله : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } معناه مُخْرِجك من بينهم ، ومُنَجِّيك ، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع ، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه وتعظيم منصبه عند الله تعالى .
قوله : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ } فيه قولان :
أظهرهما : أنه خطاب لعيسى عليه السلام .
الثاني : أنه خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم فيكون الوقف على قوله : { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } تاماً ، والابتداء بما بعده ، وجاز هذا ؛ لدلالة الحال عليه . و { فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ثاني مفعولي { وَجَاعِلُ } لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط .
و { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } متعلق بالجَعْل ، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم .
ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي : جاعلهم قاهرين لهم ، إلى يَوْمِ القيامةِ ، يعني أنهم ظاهرون على اليهود ، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا ، فأما يوم القيامة ، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم ، فيدخل الطائع الجَنَّةَ ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا ، وانقضائها ؛ لأن لهم استعلاءً آخر غير هذا الاستعلاء .
قال أبو حيّان : " والظاهر أن " إلى " تتعلق بمحذوف وهو العامل في " فَوْقَ " وهو المفعول الثاني ل " َجَاعِل " إذْ معنى " جاعل " هنا مُصَيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة . وهذا على أن الفوقية مجاز ، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق " إلى " بذلك المحذوف ، بل بما تقدم من " مُتَوَفِّيك " أو من " رَافِعُكَ " أو من " مُطَهِّرُكَ " إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها ، أما تعلقه ب " رَافِعُكَ " أو ب " مُطَهِّرُكَ " فظاهر ، وأما ب " مُتَوَفِّيكَ " فعلى بعض الأقوال " .
يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به : قابضك من الأرض من غير موت ، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [ وابن جريج ] {[5524]} وابن زيد وغيرهم{[5525]} . أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ : وهو مُسْتَوْفٍ أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك ، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار ، وإن على قول مَنْ يقول : إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به ؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة ، بل قائل يقول : إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة . وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل ، والظاهر أنه متعلق ب " جَاعِل " . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم " أحكم " ونحوه قبل الباء .
قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ : الذين اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه{[5526]} واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة ، والمنعة ، والحُجَّةِ .
وقيل : هم الروم {[5527]} .
وقيل : النصارى ، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ{[5528]} ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم ، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة . وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود ، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود ، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة ، والنصارى بخلاف ذلك .
قال أهلُ التّاريخِ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً ، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل ، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة ، فكانت نبوته ثلاث سنين ، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل ، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره ، على ما قال : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } [ النساء : 157 ] والأخبار واردة أيْضاً بذلك ، إلا أن الرواياتِ اختلفت ، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه ، فقتلوه وصلبوه ، وتارة يروى أنه صلى الله عليه وسلم رغّب أحد خواص أصحابه في أن يلقي الله شبهه عليه حتى يُقْتَل في مكانه ، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات :
الأول : أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر ، لزم السفسطة ؛ فإني إذا رأيتُ ولدي ، ثم زينته ثانياً فحينئذ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي ، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات .
وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يأمرهم ، ويَنْهَاهُمْ ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير ، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ .
وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس ، فإذا [ جاز ] {[5529]} الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى ، وبالجملة ، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ .
الإشكال الثاني : أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال ، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [ المائدة : 110 ] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر ، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه .
وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء ، وعلى إسْقامهم ، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له ؟
الإشكال الثالث : أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم ، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير ؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة ؟
الإشكال الرابع : أنه إذا ألقي شبهه على الغير ، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى ، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى .
الإشكال الخامس : أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح ، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ، مصلوباً ، فلو أنكرنا ذلك ، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر ، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك باطل .
الإشكال السادس : أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع ، ولقال : إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى ، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى ، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم .
والجواب عن الأول : أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور ، فكذا القول فيما ذكرتم .
والجواب عن الثاني : أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه ، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء ، وذلك غير جائز ، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث ؛ فإنه - تعالى لو رفعه إلى السماء ، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء .
والجواب عن الرابع : أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين ، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة ؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس .
والجواب عن الخامس : أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز ، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ ، لم يكن مُفِيداً للعلم .
والجواب عن السادس : أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً ، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ .
وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله .
قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدّينِ ، وأمر عيسى عليه السلام ؛ التفات من غيبة إلى خطابِ ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رضي الله عنهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه ، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات ، لكان : ثم إليّ مرجعهم ، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا ، ولكنه التفت إلى الخطاب ؛ لأنه أبلغ في البشارة ، وأزجر في النذارة . وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني : إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا ؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه ، ومتولّي أمره ، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي : إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته ، ومحل عبادته ؛ ليسكن فيها ، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به ، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم ؛ ليتمَّ بذلك سروره ، ويكمل فرحه . وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره ؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم ، وبشأنه أعْنَى ، كقوله : { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] وفي الحديث : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ " {[5530]} .