قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ ، وذلك أن أبا جهل كان ( قد ){[45711]} حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه{[45712]} انثنت يده إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت كلامه ، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً }{[45713]} .
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر ، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً{[45714]} .
وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله{[45715]} كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة .
الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون } يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى : { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون{[45716]} .
قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } في هذا الضمير وجهان :
أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل{[45717]} ، لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن ، لأنه يلبس{[45718]} العُنُقَ جَميعَهُ .
قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معها من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ{[45719]} .
الثاني : أن الضمير يعود على «الأيدي » ، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق ، واليدين ، ولذلك سمي جامعة ، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ{[45720]} . إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً ، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر{[45721]} .
أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة .
والثاني : أنه استعارة ، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين{[45722]} .
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ : ( مثل ){[45723]} لتصميمهم على الكفر ، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له ، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم{[45724]} في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله{[45725]} . وقال غيره : هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم{[45726]} بينهم وبينه . ( و ){[45727]} قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين{[45728]} . وتقدم تفسير الأّذْقان{[45729]} .
وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد ، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى ( في ) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق . وعلى هذا فقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ . . . . وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في ( الأنْفُسِ{[45730]} و ) الآفاق . «فَهُمْ مُقْمَحُونَ » هذه الفاء لأحسن ترتيب ، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق . أو لما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ{[45731]} .
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قَمَح البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب ، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها- وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً ، والجَمْع قِماحٌ{[45732]} وأنشد :
4168- وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ . . . نَغُضُّ الطَّرف كَالإبِلِ القِمَاحِ{[45733]}
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة ، فأصابهم المَيَدُ{[45734]} .
قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها ، لشِدة البرد{[45735]} وأنشد أبو زيد للهذلي :
4169- فَتًى مَا ابْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا . . . وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ{[45736]}
كذا رواه بضم القَاف ، وابنُ السِّكِّيت{[45737]} بكسرها . وقال اللَّيْثُ{[45738]} : القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود . وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب{[45739]} . والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره .
وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه . وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى . وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر{[45740]} مستدلاً بالبيت المتقدم :
4170- . . . . . . . . . . . . . . نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم . وسأل الناس أمير المؤمنين ( علياً ){[45741]} - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجعل يده تحت لِحْيَتِهِ{[45742]} ورفع رأسه . وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود «فَهيَ » على الأيدي{[45743]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.