اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ ، وذلك أن أبا جهل كان ( قد ){[45711]} حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه{[45712]} انثنت يده إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت كلامه ، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً }{[45713]} .

ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر ، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً{[45714]} .

وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله{[45715]} كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة .

الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون } يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى : { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون{[45716]} .

قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } في هذا الضمير وجهان :

أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل{[45717]} ، لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن ، لأنه يلبس{[45718]} العُنُقَ جَميعَهُ .

قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معها من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ{[45719]} .

الثاني : أن الضمير يعود على «الأيدي » ، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق ، واليدين ، ولذلك سمي جامعة ، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ{[45720]} . إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً ، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر{[45721]} .

وفي هذا الكلام قولان :

أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة .

والثاني : أنه استعارة ، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين{[45722]} .

وقال الزَّمْخَشَرِيُّ : ( مثل ){[45723]} لتصميمهم على الكفر ، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له ، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم{[45724]} في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم متعامون عن آيات الله{[45725]} . وقال غيره : هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم{[45726]} بينهم وبينه . ( و ){[45727]} قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين{[45728]} . وتقدم تفسير الأّذْقان{[45729]} .

وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد ، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى ( في ) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق . وعلى هذا فقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ . . . . وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في ( الأنْفُسِ{[45730]} و ) الآفاق . «فَهُمْ مُقْمَحُونَ » هذه الفاء لأحسن ترتيب ، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق . أو لما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ{[45731]} .

والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قَمَح البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب ، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها- وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً ، والجَمْع قِماحٌ{[45732]} وأنشد :

4168- وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ . . . نَغُضُّ الطَّرف كَالإبِلِ القِمَاحِ{[45733]}

يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة ، فأصابهم المَيَدُ{[45734]} .

قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها ، لشِدة البرد{[45735]} وأنشد أبو زيد للهذلي :

4169- فَتًى مَا ابْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا . . . وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ{[45736]}

كذا رواه بضم القَاف ، وابنُ السِّكِّيت{[45737]} بكسرها . وقال اللَّيْثُ{[45738]} : القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود . وقال أبو عبيدة إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب{[45739]} . والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما تقدم تحريره .

وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه . وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى . وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر{[45740]} مستدلاً بالبيت المتقدم :

4170- . . . . . . . . . . . . . . نغض الطرف كالإبل القماح

وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم . وسأل الناس أمير المؤمنين ( علياً ){[45741]} - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجعل يده تحت لِحْيَتِهِ{[45742]} ورفع رأسه . وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود «فَهيَ » على الأيدي{[45743]} .


[45711]:سقط من "ب".
[45712]:في "ب" رضحه.
[45713]:انظر: تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن 15/7 والرازي 26/44 ومعاني الفراء 2/273.
[45714]:الرازي 26/44.
[45715]:معاني الفراء 2/273.
[45716]:انظر: تفسير الرازي 26/44.
[45717]:وبه قال الزمخشري في الكشاف 3/315 ونقله أبو حيان في البحر 7/324 والسمين في الدر 4/495 والرازي في تفسيره 26/44.
[45718]:الدر المصون 4/495.
[45719]:الكشاف 3/315.
[45720]:جامع البيان 22/98. وذهب إليه من المتأخرين الزجاج في المعاني 4/279 والفراء كذلك في معانيه 2/272 والنحاس في الإعراب 3/383 والرازي في تفسيره 26/44.
[45721]:قال: الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك الحق الأبلج إلى الباطن اللجلج. انظر : الكشاف 3/316.
[45722]:قاله بالحقيقة عكرمة نقلا عن البحر 7/324 وقال ابن عباس وابن إسحاق استعارة لحالة الكفرة انظر: البحر المرجع السابق والقرطبي 15/8.
[45723]:سقط من "ب".
[45724]:في الكشاف : ولا ما خلفهم.
[45725]:وفيه: عن النظر في... انظر الكشاف 3/316 و 317.
[45726]:في "ب" وحال بينهم وبينه. وفي البحر والدر المصون: وجوله وانظر: البحر 7/324 والدر المصون 4/496.
[45727]:زيادة من "ب".
[45728]:في المرجعين السابقين: المغلولين، وفي "ب" المعلومين وهنا في "أ" المغلوبين.
[45729]:عند الآية 107 من سورة الإسراء: {يخرون للأذقان سجدا} فإن "الأذقان" جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين.
[45730]:ما بين الأقواس زيادة من "أ" الأصل عن "ب".
[45731]:انظر: تفسير الإمام الفخر الرازي التفسير الكبير 26/45 والدر المصون للسمين الحلبي 4/496.
[45732]:لسان العرب لابن منظور: "ق م ح " ومجاز القرآن لأبي عبيدة 2/157 قال: "المقمح والمقنح واحد تفسيره أي يجذب الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه. وانظر أيضا غريب القرآن لابن قتيبة 364 والقرطبي 15/8 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/279 ومعاني الفراء 2/273 والبحر المحيط 7/325.
[45733]:من تمام الوافر لبشر بن أبي خازم يصف ركبان السفينة بالغثيان والدوار عند اضطراب الموج. وشاهده: كالإبل القماح فهم رافعون رؤوسهم في اضطراب كما ترفع الإبل رؤوسها إذا أصيبت بداء القماح، وانظر: ديوانه 48، ومجاز القرآن 2/57 وغريب القرآن 364، والقرطبي 15/8، واللسان: "ق م ح" وديوان المفضليات 844.
[45734]:وهو ما يصيب من الحيرة عن السكر أو الغثيان أو ركوب البحر. اللسان "م ي د"، وفي "ب" البيد. وهو تحريف.
[45735]:معاني القرآن وإعرابه 4/279 والشهران الشديدا البرد كانون الأول وكانون الثاني أي ديسمبر ويناير وقماح ككتاب وغراب.
[45736]:من الوافر لمالك بن خالد الهذلي وفتى ما أي أي فتى؟ والشاهد: شهري قماح فهما شهران تعاف الإبل الماء فيهما لشدة برودته. انظر: الإنصاف 66 واللسان: "ق م ح" والبحر 7/325 وديوان الهذليين 3/5.
[45737]:يعقوب بن إسحاق أبو يوسف النحوي اللغوي توفي سنة 246 انظر: إنباه الرواة 4/50-57.
[45738]:الليث بن نصر بن يسار الخراساني صاحب العربية، انظر: البغية 2/270. وانظر رأيهما في اللسان: "ق م ح" والبحر 7/324 و 325.
[45739]:عبارته: "يجذب الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه" المجاز 2/157.
[45740]:قاله الفراء في معانيه 2/373.
[45741]:سقط من "أ".
[45742]:في "ب" لحييه.
[45743]:وانظر: البحر المحيط 7/324، فقد جمع هذه الأقوال.