اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ} (12)

قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } عند البعث . لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر . ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : { فَبَشِّرهم بمغفرة } ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا فاللَّه يحيي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحْيَاءُ الموتى{[45765]} .

فصل

«إنّا نحن » يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله :

4171- أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي{[45766]} . . .

ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة ، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال{[45767]} ( لَهُ ){[45768]} : من أنت ؟ فيقول : أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له : مَنْ أَنْتَ ، يقول{[45769]} : أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال : إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى .

والثاني : أن الخبر«نُحْيِي » كأنه قال : «إِنَّا نُحِيي المَوْتَى » و «نحن » يكون تأكيداً .

وفي قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } إشارة إلى الوحيد ؛ لأن الإشراك يوجب التمييز ، فإن «زيداً » إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : «أنا زيد » لا يحصل التعريف التام ، «لأن »{[45770]} للسامع أن يقول : أيُّمَا زيد ؟ فيقول : ابنُ عمرو ، ( ولو{[45771]} كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو لا يكفي قوله : ابن عمرو ) فلما قال الله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز ، وحينئذ تصير الأصول {[45772]} الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر{[45773]} .

قوله : { وَنَكْتُبُ } العامة على بنائه للفاعل ، فيكون «مَا قَدَّمُوا » مفعولاً به و «آثَارهُمْ » عطف عليه . وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول ، و «آثَارُهُم »{[45774]}بالرفع عطفاً على «مَا قَدَّمُوا » لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل{[45775]} .

فصل

المعنى ما قدموا وأخروا ، فاكتفي بأحدهما ، لدلالته على الآخر كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي وَالبَرْدَ . وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }{[45776]} [ البقرة : 95 ] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته . وقيل : نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و «آثَارَهُمْ » أي أعمالهم . وفي «آثارهم » وجوه :

أحدها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة .

فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظّلامة{[45777]} المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة . قال- عليه ( الصلاة{[45778]} و ) السلام : «مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً »{[45779]} وقيل : نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد{[45780]} ؛ لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال : شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله : { ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم } فقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ »{[45781]} . وقال - عَلَيْهِ ( الصَّلاَةُ وَ ) السَّلاَمُ- : «أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً من الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ »{[45782]} فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال : ( «نُحْي » ){[45783]} و «نكتُبُ » ولم يقل : نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ ؟ .

فالجواب : أن الكتابة معظمة ، لا من الإيحاء ، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب{[45784]} لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر ، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء . ( و ){[45785]} لأنه تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ } وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ ، والإحياء العظيم يختص بالله ، والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم .

قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامة على نصب «كل » على الاشتغال{[45786]} . وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء{[45787]} والأرجحُ قراءةُ العامة ، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ{[45788]} .

فصل

«أَحْصَيْنَاهُ » حفظناه وثبّتناه «فِي إمَامِ مُبينٍ » . فقوله «أَحْصَيْنَاهُ » أبلغ من كتبناه ، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده{[45789]} ، فقال يحصي{[45790]} فيه . وإمامٌ جاء جمعاً في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بأئمتهم{[45791]} وحنيئذ ف «إمَام » إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب ، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال . والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً ( للملائكة{[45792]} ما ) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير . وسمي الكتاب إماماً ، لأن الملائكة يأتمون به ، ويتبعونه ، وهو اللوح المحفوظ . وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يُبدَّل ، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن ، فلما قال «نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا » بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه{[45793]} . وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله : «وَنَكْتُبُ » ؛ لأن من يكتب{[45794]} شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقال : نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى :

{ عِلْمُهَا{[45795]} عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] . وقيل : إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن ( علم ){[45796]} الله ، ولا يفوته وهو قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52-53 ] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب{[45797]} .


[45765]:الرازي المرجع السابق.
[45766]:من الرجز لأبي النجم. والاستشهاد بالبيت على أن "أنا أبو النجم" مبتدأ مؤخر ك "إنا نحن" من الآية الكريمة. والبيت في الخصائص 3/337 والمنصف 1/10 وأمالي الشجري 1/244 وشرح ابن يعيش 1/98 و 9/83 والمغني 329 و437 و 657 والهمع 1/60 و 2/95 والدرر اللوامع 1/35 و 2 /76 والأشموني 1/155 والرازي 26/48. ومن الإمكان –وهو الأرجح- أن يكون التنظير بالبيت في "وشعري شعري" ومعنى: وشعري شعري المعروف الموصوف كما بلغت وعرفت فكذلك: "إنا نحن" أي معروفون بأوصاف الكمال فالمبتدأ والخبر معرفتان.
[45767]:في "ب" فيقال.
[45768]:سقط من (ب).
[45769]:في "ب" فيقول.
[45770]:ما بين الأقواس ساقط من (ب) و (أ) وتكملة من الرازي.
[45771]:ما بين الأقواس ساقط من (ب) و (أ) وتكملة من الرازي.
[45772]:في "ب" الأمور.
[45773]:وانظر في هذا كله تفسير الفخر الرازي 26/48و 49.
[45774]:في "ب" وآباؤهم تحريف.
[45775]:من القراءات الشاذة ذكرها ابن خالويه في المختصر 124 وابن الجوزي في زاد المسير 7/8 منسوبة إلى إبراهيم المخعي والجحدري وذكرها في الكشاف دون نسبة. الكشاف 3/317.
[45776]:الآية 95 من سورة البقرة و62 من سورة النساء و47 من سورة القصص و 48 من سورة الشورى و 7 من سورة الجمعة. وقد ذكر هذه الآراء الثلاثة الفخر الرازي في تفسيره 26/49 ورجح الفراء والزجاج في معانيهما الرأي الثاني. انظر معاني الفراء 2/373 والزجاج 4/281 والكشاف 3/316.
[45777]:كذا في "ب" والرازي وفي "أ" كالطلابات. واختار هذا الرأي ابن عباس وابن جبير والفراء وابن قتيبة والزجاج. انظر زاد المسير 7/9.
[45778]:زيادات من "ب".
[45779]:رواه مسلم في صحيحه 8/61 عن جرير بن عبد الله من حديث طويل.
[45780]:زاد المسير 7/9 والرازي 26/49.
[45781]:الرازي السابق.
[45782]:عن أبي موسى رواه البخاري في صحيحه 1/120.
[45783]:سقط من ب.
[45784]:كذا في "أ" والرازي وما في "ب" المصاب.
[45785]:سقط من "ب".
[45786]:ذكرت في القرطبي 15/13 ومعاني الفراء 2/373 ومشكل الإعراب 2/222 والتبيان 815و 1079 والبيان 2/291 وإعراب القرآن للنحاس 3/386 والبحر المحيط 7/325 والدر المصون 4/499. والكل رجح النصب.
[45787]:مختصر ابن خالويه 124 والبحر المحيط 7/325 وزاد المسير 7/9 بنسبتها إلى ابن السميقع وابن أبي عبلة. وانظر: الكشاف أيضا 3/377 والقرطبي 15/13.
[45788]:المراجع السابقة.
[45789]:قاله أبو عبيدة في المجاز 2/159.
[45790]:في "ب" نحصي.
[45791]:في "ب" بأمتهم.
[45792]:سقط من "ب".
[45793]:انظر في هذا تفسير العلامة الرازي 26/49و 50.
[45794]:في "ب" كتب بصيغة الماضي.
[45795]:لفظة "علمها" سقطت من "ب".
[45796]:سقط من "ب".
[45797]:تفسير الفخر الرازي 26/50.