قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } عند البعث . لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر . ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : { فَبَشِّرهم بمغفرة } ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم ير في الدنيا فاللَّه يحيي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحْيَاءُ الموتى{[45765]} .
أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله :
4171- أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي{[45766]} . . .
ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة ، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال{[45767]} ( لَهُ ){[45768]} : من أنت ؟ فيقول : أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له : مَنْ أَنْتَ ، يقول{[45769]} : أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال : إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى .
والثاني : أن الخبر«نُحْيِي » كأنه قال : «إِنَّا نُحِيي المَوْتَى » و «نحن » يكون تأكيداً .
وفي قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } إشارة إلى الوحيد ؛ لأن الإشراك يوجب التمييز ، فإن «زيداً » إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : «أنا زيد » لا يحصل التعريف التام ، «لأن »{[45770]} للسامع أن يقول : أيُّمَا زيد ؟ فيقول : ابنُ عمرو ، ( ولو{[45771]} كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو لا يكفي قوله : ابن عمرو ) فلما قال الله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز ، وحينئذ تصير الأصول {[45772]} الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر{[45773]} .
قوله : { وَنَكْتُبُ } العامة على بنائه للفاعل ، فيكون «مَا قَدَّمُوا » مفعولاً به و «آثَارهُمْ » عطف عليه . وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول ، و «آثَارُهُم »{[45774]}بالرفع عطفاً على «مَا قَدَّمُوا » لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل{[45775]} .
المعنى ما قدموا وأخروا ، فاكتفي بأحدهما ، لدلالته على الآخر كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي وَالبَرْدَ . وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }{[45776]} [ البقرة : 95 ] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته . وقيل : نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و «آثَارَهُمْ » أي أعمالهم . وفي «آثارهم » وجوه :
أحدها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة .
فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظّلامة{[45777]} المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة . قال- عليه ( الصلاة{[45778]} و ) السلام : «مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً »{[45779]} وقيل : نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد{[45780]} ؛ لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال : شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله : { ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم } فقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ »{[45781]} . وقال - عَلَيْهِ ( الصَّلاَةُ وَ ) السَّلاَمُ- : «أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً من الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ »{[45782]} فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال : ( «نُحْي » ){[45783]} و «نكتُبُ » ولم يقل : نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ ؟ .
فالجواب : أن الكتابة معظمة ، لا من الإيحاء ، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب{[45784]} لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر ، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء . ( و ){[45785]} لأنه تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ } وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ ، والإحياء العظيم يختص بالله ، والكتابة دونه تقرير العريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم .
قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامة على نصب «كل » على الاشتغال{[45786]} . وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء{[45787]} والأرجحُ قراءةُ العامة ، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ{[45788]} .
«أَحْصَيْنَاهُ » حفظناه وثبّتناه «فِي إمَامِ مُبينٍ » . فقوله «أَحْصَيْنَاهُ » أبلغ من كتبناه ، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدده{[45789]} ، فقال يحصي{[45790]} فيه . وإمامٌ جاء جمعاً في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بأئمتهم{[45791]} وحنيئذ ف «إمَام » إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب ، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال . والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً ( للملائكة{[45792]} ما ) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بين أحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير . وسمي الكتاب إماماً ، لأن الملائكة يأتمون به ، ويتبعونه ، وهو اللوح المحفوظ . وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لا يُبدَّل ، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن ، فلما قال «نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا » بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه{[45793]} . وقيل : إن ذلك مؤكّد لمعنى قوله : «وَنَكْتُبُ » ؛ لأن من يكتب{[45794]} شيئاً في أوراق ويرميها قد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقال : نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى :
{ عِلْمُهَا{[45795]} عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] . وقيل : إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن ( علم ){[45796]} الله ، ولا يفوته وهو قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52-53 ] يعني ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب{[45797]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.