اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ} (9)

قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف{[45744]} والحمد لله .

وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فينبغي أن يَسْلُكُوا الطّريقة المستقيمةَ «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا » فلا يقدرون على السلوك . وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية ، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله ، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق ، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع ، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة يهلك . فقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } إشارة إلى هَلاَكِهِمْ{[45745]} فصاروا بمنزلة من يبنى{[45746]} عليه الحائط وهو واقفٌ .

قوله : { فأغشيناهم } العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف . وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز ، والحَسَنُ ، وابنُ يعْمُرَ ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة{[45747]} .

وهو ضعف البصر . يقال : عِشِيَ بَصَرُهُ ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا{[45748]} .

وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة .

فصل{[45749]}

قوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ } بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه ؟ فيقال من وجهين :

أحدهما : أن ذلك بيان لأمور مرتبة ليس بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم ، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً .

والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم ، فإن من جعل من خلفه وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبقى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً ، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً .

فَإنْ قيلَ : ذكر السد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه ؟ .

فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر . وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة ، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء ، ومُوَلِّين{[45750]} عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه{[45751]} من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً ( فإنَّا ){[45752]} لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين ، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً ، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال .

وقوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا يبصرون شئياً ، أو لا يبصرون سبيلَ الحق ؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى{[45753]} .


[45744]:عند قوله: {حتى إذا بلغ بين السدين} من الآية 93 والآية 94 {على أن تجعل بيننا وبينهم سدا}وضم الشين في "يس" هنا ابن كثير ونافع، وأبو عمرو وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وفتحها عاصم فيما رواها عنه حفص وفتحها أيضا حمزة والكسائي. وهما لغتان. ولافرق بينهما (بين المضموم والمفتوح) أن المضموم ما كان من صنع الله، والمفتوح من البشر. ومن قائل: إن المفتوح المصدر، والمضموم الشيء المسدود وذهب في يس إلى أن الضم بمعنى سدة العين. انظر: السبعة 539 وحجة ابن خالويه 231 والكشاف 2/75 و 76.
[45745]:في "ب" إهلاكهم.
[45746]:وفيها: تبنى عليه الحائط.
[45747]:ذكرها ابن خالويه وقال: إنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم انظر: مختصر ابن خالويه 124 والمحتسب 2/204 ومعاني الفراء 2/373، وزاد المسير 7/8 ومعاني الزجاج 4/280 والقرطبي 15/10 والكشاف 3/316.
[45748]:في "أ" أغشى بصره وأغشيته. والتصحيح أعلى من "ب".
[45749]:كذا في "ب" وفي "أ" قوله بدل فصل. والتصحيح من "ب".
[45750]:في "ب" متولين.
[45751]:وفيها: فيمنعه.
[45752]:ما بين القوسين سقط من "ب".
[45753]:وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي 26/46، 47.