اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَسۡبَٰبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ كَٰذِبٗاۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرۡعَوۡنَ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِۚ وَمَا كَيۡدُ فِرۡعَوۡنَ إِلَّا فِي تَبَابٖ} (37)

قوله : «أسْبَابَ السَّمَواتِ » ، فيه وجهان :

أحدهما : أنه تابع «للأسباب » قبله ، بدلاً أو عطف بيان .

والثاني : أنه منصوب{[48225]} بإضمار أعني . والأول أولى{[48226]} ؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار .

قوله : «فَأَطَّلِعَ » العامة على رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي ؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه{[48227]} وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جواب الأمر في قوله «ابن لي » فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :

4340 يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا *** إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا{[48228]}

وهو أوفق لمذهب البصريين

الثاني : أنه منصوب ، قال أبو حيان : عطفاً على التوهم ؛ لأن خبر «لعل » جاء مقروناً «بأن » كثيراً في النظم ، وقليلاً في النثر ، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب «بأن » والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس{[48229]} .

الثالث : أن ينتصب على جواب الترجي في لعل ، وهو مذهب كوفي استشهد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } [ عبس : 34 ] بنصب «فتنفعه » جواباً ل «لعله » . وإلى هذا نحا الزمخشري ، قال : «تشبيهاً للترجي بالتمني »{[48230]} . والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم .

وفي سورة عبس{[48231]} يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله : «وَمَا يُدْرِيكَ » فإنه مترتبٌ عليه معنًى . وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني{[48232]} ، وفيه نظر ؛ إذ ليس في اللفظ تمن ، إنما فيه ترجٍّ ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي ، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله :

4341 لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى *** والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ{[48233]}

قوله : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ } ، قرئ : «زَيَّنَ » مبنياً للفاعل{[48234]} ، وهو الشيطان ، وتقدم الخلاف في «صد عن السبيل » في الرعد{[48235]} ، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل ، ( وهو{[48236]} الإيمان ) . قالوا : ومِنْ صَدِّه قوله : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } [ طه : 71 ] ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } [ محمد : 1 ] وقوله : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتنح : 25 ] وابن وثاب : «وصِدَّ » بكسر الصاد{[48237]} ، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بعد توهم سلب حركتها ، وقد تقدم ذلك في نحو : ردَّ{[48238]} ، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قِيلَ وبِيعَ ، وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة : وَصَدٌّ{[48239]} بفتح الصاد ، ورفع الدال منونة جعله مصدراً منسوقاً{[48240]} على «سُوءُ عَمَلِهِ » ، أي زين له الشيطان سُوءَ العَمَلِ والصَّدَّ ، { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وَهلاَكٍ . والتَّبَابُ الخِسَارة ، وعقد تقدم في قَوْلِهِ «غَيْرَ تَتْبِيبٍ »{[48241]} .


[48225]:في ب منسوب بالسين.
[48226]:قال بالأول ابن الأنباري في البيان 2/331 والعكبري في التبيان 1120 والسمين في الدر 4/696 وبالثاني السمين في مرجعه السابق.
[48227]:من القراءة المتواترة وممن قرأ بها أيضا الأعرج وأبو حيوة، وزيد بن علي، والزعفراني ذكره أبو حيان في البحر 7/465.
[48228]:من الأبيات المشهورة في عالم النحو وهو من الرجز لأبي النجم العجلي. والعنق محركة ضرب من السير والفسيح الواسع، وسليمان هو سليمان بن عبد الله الخليفة. والشاهد: "فنستريحا" حيث نصب المضارع بعد الفاء على جواب الأمر وهو "سيري". وانظر معاني الفراء 1/478 و2/79، والكتاب 3/35، والمقتضب 2/13، وشرح ابن يعيش على المفصل 7/26، والهمع 1/182، 2/10، والتصريح 2/239، والأشموني 3/302، والمقتصد 1069، والرد على النحاة 115، والدر المصون 4/596.
[48229]:قاله في البحر 7/466.
[48230]:الكشاف 3/427 و428.
[48231]:الآيتان 3و4 السابقتان.
[48232]:البحر المحيط 7/465.
[48233]:من تمام الكامل، ولم أعرف قائله، والرجيع: العرق، سمي رجيعا لأنه كان ماء فصار عرقا. والبيت تدور فكرته في تمني الشباب بعد زواله وبعد حلول الكبر. وشاهده: أن "ليت" لا تستعمل إلا في الأمر المستحيل والممكن معا وهي هنا في المستحيل. وقد تقدم.
[48234]:من القراءة الشاذة، وقد نقلها الزمخشري في الكشاف 3/428 وأبو حيان في البحر المحيط 7/466.
[48235]:من الآية 33 {بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل} فقرأ هنا وفي الرعد حفص عن عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمجهول والباقون بفتح الصاد والدال مشددة وهي متواترة، وانظر النشر 1/365، 361 وحجة ابن خالويه 315.
[48236]:ما بين القوسين سقط من ب وهو كلام من الرازي 27/67.
[48237]:نقلها أبو حيان في بحره 7/466.
[48238]:من إخلاص الضم وإخلاص الكسر والإشمام.
[48239]:قراءة شاذة غير متواترة ذكرها ابن خالويه في مختصره 130.
[48240]:أي معطوفا.
[48241]:من الآية 103 {وما تزويدونني غير تتبيب}. والتتبيب هو التخسير. وانظر اللباب ميكروفيلم.