اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قوله : { يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يعنى النبوة . والهمزة للإنكار . وهذا إبطال لشبهتهم وتقريره من وجوه :

الأول : أنا إذا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا ، ولم يقدِرْ أحد من الخلق على التفسير ، فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يَقْدِرُوا على التَّصرف أولى .

الثاني : إن اختصاص ذلك المعنى ذلك{[49789]} الرجل إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا فيكف يليق بالعقل أن يجعل{[49790]} إحْسَاناً إليه بكثرة المال حجة علينا في أن يحسن إليه بالنبوة ؟ .

الثالث : أنا إنما{[49791]} أوقعنا التفاوت في الإحسان بمنافع الدنيا لا بسبب سابق فلم لا يجوز أيضاً أن يوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق ؟ ! .

ثم قال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا } فجعلنا هذا غَنِيًّا وهذا فقيراً ، وهذا مالكاً ، وهذا مملوكاً ، كما فضلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شِئْنا ، كذلك اصطفينا بالرسالة من شِئْنَا { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } في القوة والضعف ، والعلم ، والجهل ، والغِنَى ، والفقر لأن لو سويناهم في كل هذه الأحوال ، لم يخدم أحدٌ أحداً ، ولم يصِرْ أحدٌ منهم مُسَخَّراً لغيره . وحينئذ يخرب العَالَمُ ويَفْسَدُ نظام الدنيا .

وقوله : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي ليستخدم بعضهم بعضاً ، فيسخر الأغنياء بأموالهم الأُجَرَاءَ الفقراء بالعمل فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم{[49792]} . وقد مضى الكلام في سخرياً في المؤمنين{[49793]} . وقرأ بالكسر هنا عَمْرُو بنُ مَيْمُون ، وابن مُحَيصِن ، وأبوُ رَجاء وابنُ أبي ليلى ، والوليدُ بنُ مُسْلِم{[49794]} ، وخلائقُ بمعنى المشهورة وهو الاستخدام . وَيَبْعُدُ قولُ بعضهم : إنه استهزاء الغنيّ بالفقير{[49795]} . ثم قال : «وَرَحْمَةُ ربِّكَ » يعني الجنة «خَيْرٌ لِلْمُؤمِنِينَ » مما يجمع الكفار من الأموال .


[49789]:في ب بذلك وعبارة الرازي: أن اختصاص ذلك الغني بذلك المال الكثير... الخ.
[49790]:كذا في ب وفي الرازي: نجعل بالنون.
[49791]:في الرازي: لما.
[49792]:انظر القرطبي 16/83.
[49793]:عند قوله: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون} الآية 110 من المؤمنين وكل الناس ضموا سخريا عدا ابن محيص ومجاهد كما قال القرطبي 16/83 وأخبر المؤلف أعلى أن ممن كسرها أبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وأبو رجاء، وعمرو بن ميمون وابن عامر، وهذا نقلا عن البحر المحيط 8/13 والدر المصون 4/780 وقراءة الكسر قراءة شاذة غير متواترة.
[49794]:أبو العباس، وقيل: أبو بشر الدمشقي عالم أهل الشام روى عن نافع بن أبي نعيم وغيره، وروى عنه إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره مات سنة 19 هـ. انظر غاية النهاية 2/360.
[49795]:نقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/410 وكذلك القرطبي 16/83.