" اللَّهُمَّ رَبَّنَا " تقدَّم الكلامُ عليه ، قوله : " ربَّنا " نِدَاءٌ ثاني .
قوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً } : [ في " تَكُونُ " ضمير يعود على " مَائِدَة " هو اسمُها ، وفي الخبر احتمالان :
أظهرهما : أنه عيد ] ، و " لَنَا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه حال من " عِيداً " ؛ لأنها صفة له في الأصل .
والثاني : أنها حال من ضمير " تَكُونُ " عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالها في الحال .
والوجه الثاني : أنَّ " لَنَا " هو الخبر ، و " عِيداً " حال : إمَّا من ضمير " تَكُونُ " عند مَنْ يَرَى ذلك ، وإمَّا من الضمير في " لَنَا " ، لأنه وقع خبراً فتحمَّل ضميراً ، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ صفةً لمائدة .
وقرأ عبدُ الله : " تَكُنْ " بالجزمِ على جوابِ الأمرِ في قوله : " أنْزَلَ " ، قال الزمخشري - رحمه الله - : وهما نظيرُ " يَرِثُنِيَ [ وَيَرِثُ " ] يريد قوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 ، 6 ] بالرفع صفةً ، وبالجزم جواباً ، ولكن القراءتان هناك متواترتان ، والجزمُ هنا في الشاذ .
والعيدُ هنا مشتقٌّ من العود ؛ لأنه يعود كلَّ سنة ، قاله ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ ، وقال ابن الأنباريِّ : " النحويُّون يقولون : يوم العيدِ ؛ لأنَّه يعود بالفَرَحِ والسُّرورِ فهو يَوْمُ سُرُورِ الخَلْقِ كلهم ، ألا ترى أنَّ المَسْجُونين في ذلك اليَوْم لا يُطَالَبُونَ ولا يُعَاقَبُون ، ولا يُصادُ الوَحْشُ ولا الطُّيُورُ ، ولا تَغْدُو الصِّبْيَان إلى المَكَاتِب " . وقيل : هو عِيدٌ ؛ لأنَّ كُلَّ إنْسَان يَعُودُ إلى قَدْرِ مَنْزِلَتهِ ؛ ألا ترى إلى اختلافِ ملابِسِهم وهَيْئَاتِهِم ومآكِلِهم ، فمنهم من يُضيف ومنهم من يُضاف ، ومنهم من يَرْحَم ومنهم من يُرْحَم .
وقيل : سُمِّي بذلك ؛ لأنَّهُ يَوْمٌ شريف ، تَشْبيهاً بالعيدِ وهو فحلٌ كريم مشهور عند العربِ ويَنْسِبُون إليه ، فيقالُ : إبل عيدية .
. . . *** عِيدٌ بِهَا أزْهَرَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ{[12957]}
وقال الخليلُ : العيدُ كل يومٍ يَجْمَعُ ، كأنَّهُم عَادُوا إلَيْه عند العرب ؛ لأنه يعود بالفَرَح والحُزْن ، وكلُّ ما عاد إليك في وقت ، فهو عيد ؛ حتَّى قالوا لِلطَّيْفِ عِيدٌ ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
فَوَاكَبِدِي مِنْ لاعِجِ الحبِّ والهَوَى *** إذَا اعْتَادَ قَلْبِي مِنْ أمَيْمَةَ عِيدُهَا{[12958]}
أيْ : طَيْفُهَا ، وقال تأبَّطَ شَرًّا : [ البسيط ]
يَا عِيدُ مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيرَاقِ{[12959]} *** . . .
عَاد قَلْبِي مِنَ الطَّوِيلَةِ عِيدُ *** . . . {[12960]}
وقال الراغبُ{[12961]} : والعيدُ حالةٌ تُعاوِدُ الإنسانَ ، والعائدَة : كلُّ نفْعٍ يرجع إلى الإنسانِ بشَيْء ، ومنه " العَوْدُ " للبعيرِ المُسِنِّ : إمَّا لمعاوَدَتِهِ السَّيْرَ والعمل فهو بمعنى فاعلٍ ، وإمَّا لمعاوَدَةِ [ السنين ] إياه [ ومَرِّهَا ] عليه ، فهو بمعنى مفعول ، قال امْرُؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
عَلَى لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ *** إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا{[12962]}
وصَغَّروه على " عُيَيْدٍ " وكسَّروه على " أعْيَاد " ، وكان القياسُ عُوَيْد وأعْوَاد ؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبِ الواوِ ياء ؛ لأنها إنما قُلبتْ لسكونها بعد كَسْرةٍ ، ك " مِيزَانٍ " ، وإنما فعلوا ذلك ؛ قالوا : فرقاً بينه وبَيْن عُودِ الخَشَبِ .
قوله : " لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنه وقع صفةً ل " عِيداً " .
الثاني : أنه بدلٌ من " نَا " في " لَنَا " ، قال الزمخشريُّ{[12963]} : " لأوَّلِنَا وآخِرِنَا " بدلٌ من " لَنَا " بتكرير العاملِ ، ثم قال : " وقرأ زيدُ بنُ ثابتٍ ، وابن مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ{[12964]} : " لأولاَنَا وَأخْرَانَا " بدل " لَنَا " ، والتأنيثُ على معنى الأمَّة " ، وخَصّص أبو البقاء{[12965]} كلَّ وجْه بشيء ؛ وذلك أنه قال : " فأمَّا " لأوَّلنَا وآخِرِنَا " ، فإذا جعلت " لَنَا " خبراً أو حالاً من فاعل " تَكُونُ " فهو صفةٌ ل " عِيداً " ، وإن جعلت " لَنَا " صفة ل " عِيد " ، كان " لأوَّلِنَا " بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجَارِّ " . قال شهاب الدين{[12966]} : إنما فعل ذلك ؛ لأنه إذا جعل " لَنَا " خبراً ، كان " عِيداً " حالاً ، وإن جعله حالاً ، كان " عِيداً " خبراً ؛ وعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ " لأوَّلِنَا " بدلاً من " لَنَا " ؛ لئلا يلزم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه : إمَّا بالحال ، وإما بالخبر ، وهو " عِيد " ، بخلافِ ما إذا جُعِل " لَنَا " صفةً ل " عِيد " ، [ ولكن يُقالُ : قوله : فإن جعلت " لَنَا " صفةً ل " عيداً " ] كان " لأوَّلِنَا " بدلاً مُشْكِلٌ أيضاً ؛ لأنَّ الفصل فيه موجود ، لاسيما أنَّ قوله لا يُحْمل على ظاهره ؛ لأنَّ " لَنَا " ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة ، ولكنه نَظَرَ إلى الأصل ، وأنَّ التقدير : عيداً لَنَا لأوَّلِنَا ؛ فكأنه لا فَصْلَ ، والظاهرُ جوازُ البدل ، والفصلُ بالخبر والحال لا يَضُرُّ ؛ لأنه من تمامه ، فليس بأجنبيٍّ .
واعلم : أن البدل من ضمير الحاضر ، سواءٌ كان متكلِّماً أم مخاطباً ، لا يجوز عند جمهور البصريِّين في بدلِ الكلِّ من الكُلِّ ، لو قلت : " قُمْتُ زَيْدٌ " تعْني نَفْسَكَ ، و " ضَرَبْتُكَ عَمْراً " ، لم يَجُزْ ، قالوا : لأنَّ البدل إنما يؤتى به للبيانِ غالباً ، والحاضِرُ متميِّزٌ بنفسه ؛ فلا فائدةَ في البدلِ منه ، وهذا يَقْرُبُ من تعليلهم في مَنْعِ وصفه ، وأجازَ الأخفشُ ذلك مُطْلَقاً مستدِلاًّ بظاهر هذه الآية الكريمة ؛ لقول القائل : [ الوافر ]
أنَا سَيْفُ العَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي *** حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا{[12967]}
ف " حُمَيْداً " بدل من ياء " اعْرِفُوني " ، وقولِ الآخر : [ الطويل ]
وَشَوْهَاءَ تَغْدُو بي إلى صَارِخ الوَغَى *** بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ{[12968]}
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ *** وأمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا{[12969]}
وفي الحديث : " أتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنَ الأشْعَرِيين{[12970]} " والبصريون يُؤوِّلونَ جميعَ ذلك ، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدَّم في الوجه الأول ، وأمَّا " حُمَيْداً " ، فمنصوبٌ على الاختصاص ، وأمَّا " بِمُسْتَلئم " ، فمن باب التجريدِ ، وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيانِ ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا ، وأمَّا " قُرَيْشٍ " فالروايةُ بالرفع على أنه منادى نُوِّنَ ضرورةً ؛ كقوله : [ الوافر ]
سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا *** وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ{[12971]}
وأمَّا " نفرٌ " ، فخبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : نَحْنُ ، ومنع ذلك بعضهم ، إلا أنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً ، وإحاطة شمولٍ ، واستدلَّ بهذه الآيةِ ، وبقول الآخر : [ الطويل ]
فَمَا بَرِحَتْ أقْدَامُنَا فِي مُقَامِنَا *** ثَلاَثَتِنَا حَتَّى أزيرُوا المَنَائِيَا{[12972]}
بجر " ثَلاَثِتنَا " بدلاً من " نَا " ، ولا حُجَّة فيه ؛ لأنَّ " ثَلاَثَتِنَا " توكيدٌ جارٍ مَجْرى " كُلّ " .
قال القُرْطُبِي : وقرأ{[12973]} زَيْدُ بن ثابتٍ : " لأولَيْنَا وأُخْرَيْنَا " على الجَمْعِ قال ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : يَأكُلُ منهما آخرُ النَّاس كما يَأكُل أوَّلهُم .
قوله : " وآيةً " : عطف على " عيداً " ، و " منك " .
رُوِي أنَّ عيسى - عليه السلام - اغتسلَ ولبس المسْحَ ، وصلَّى ركْعَتَيْن ، فَطَأطَأ رَأسَهُ ، وغضَّ بصرَهُ وبَكَى وقال : " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا " {[12974]} أي : عائِدَة من الله علينا حُجَّةً وبُرْهَاناً ، والعيدُ يومُ السُّرورِ ، سُمِّي به لِلْعَوْدِ من التَّرَحِ إلى الفَرَح ، وهو اسم لما اعتدته يَعُودُ إليك ، وقد تَقدَّم .
وقال السدي : مَعْنَاهُ يُتَّخَذُ اليومُ الذي أنْزِلَتْ فيه عِيداً لأوَّلنا لأهلِ زماننا ، وآخرنا لمن يجيء بَعْدَنا{[12975]} .
وقال ابنُ عباسٍ : يأكلُ منها آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم{[12976]} .
قوله : " وآيةً مِنْكَ " دِلاَلَةً وحُجَّةً .
قيل : نَزَلَتْ يوم الأحد ، فاتَّخَذَهُ النَّصَارى عِيداً . وقوله " وارْزُقْنَا " أي : طعاماً نَأكُلُه { وأنْتَ خَيرُ الرَّازِقِين } .