اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

وهذا كقوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . و " قَدْ خَلَتْ " صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى ، وتقدَّم معنى الحصر أي : ما هُو إلاَّ رسول من جنسِ الذين مَضَوْا من قَبْلِهِ ، وليْسَ بإله ، كما أنَّ الرُّسُل الذين مَضَوْا لم يكونوا آلهَةً ، وجاء بالبَيِّنَات من اللَّهِ كما أتَوْا بأمْثَالِهَا ، وإنَّ إبراءَ عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكْمَهَ والأبْرَصَ ، وإحْيَاء الموتى فبإذْنِ اللَّهِ على يدهِ من اللَّه ، كما أحيا مُوسَى العَصَا ، وجعلها حَيَّة تَسْعَى ، وفُلِقَ له البحر ، وضرب الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ، وإن كان خلقَهُ من غير ذكرٍ ، فقد خلق اللَّهُ - تعالى - آدَمَ من غَيْرِ ذكرٍ ولا أنْثَى .

وقوله تعالى : " وأمُّهُ صدِّيقةٌ " ابتداءٌ وخبرٌ ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب ، و " صِدِّيقةٌ " تأنيثُ " صدِّيق " ، وهو بناءُ مبالغةٍ ك " فعَّال " و " فَعُول " ، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة ، فلا يقال : " زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ " ؛ كما يقال : " شرَّابٌ العَسَل " ، وإن كان القياس إعماله ، وهل هو مِنْ " صَدَقَ " الثلاثيِّ ، أو من " صَدَّقَ " مضعَّفاً ؟ القياسُ يقتضي الأولَ ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ ، وقال الزمخشري{[12373]} : " إنه من التَّصْديقِ " ، وكذا ابنُ عطية{[12374]} ، إلا أنَّه جعله محتملاً ، وهذا واضحٌ لقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } [ التحريم : 12 ] ، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفاً ، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ .

وقوله تعالى : { كَانَا يأكُلانِ الطَّعامَ } لا محلَّ له ؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك ، وقال بعضهم : " هو كنايةٌ عن احتياجهما إلى التَّغَوُّطِ " وهُو ضعيفٌ مِنْ وُجُوه :

الأول : أنَّهُ ليْسَ كُلُّ من أكل أحْدَث ، فإنَّ أهل الجَنَّةِ يأكلون ولا يُحْدِثُون .

الثاني : أنَّ الأكْلَ عبارةٌ عن الحاجَةِ إلى الطَّعَامِ وهذه الحاجَةُ من أقْوى الدَّلائلِ على أنَّهُ ليس بإله ، فأي حَاجَةٍ إلى جَعْلِهِ كِنَايَةً عن شَيْءٍ آخر ؟

الثالث : أنَّ الإله هو القادِرُ على الخَلْقِ والإيجَادِ ، فلو كانَ إلهاً لقدر على دَفْعِ ألَم الْجُوعِ عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعَامِ ، فلمَّا لم يقدر على دَفْعِ الضَّررِ عن نَفْسِه ، كيف يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً للعالمين ؟ !

والمقصودُ من هذا : الاستِدلاَلُ على فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى ، فإنّ من كان له أمٌّ فقد حَدَثَ بَعْدَ أن لَمْ يكُنْ ، وكلُّ من كان كذلك كان مَخْلُوقاً لا إلهاً ، وكُلُّ من احْتَاجَ إلى الطَّعَام أشَدَّ الحاجَةِ لَمْ يكن إلهاً ؛ لأنَّ الإله هُوَ الَّذِي يكونُ غَنِيّاً عن جَمِيعِ الأشْيَاء ، وبالجُمْلَةِ فسادُ قولِ النَّصَارى أظْهَرُ من أن يُحْتَاجَ فيه إلى دَليلٍ .

قوله تعالى : " كَيْفَ " منصوب بقوله : " نُبَيِّنُ " بعده ، وتقدم ما فيه في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وغيره ، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ ؛ لأنها معلِّقةٌ للفعل قبلها ، وقوله : { ثُمَّ انظُرْ أنَّى يُؤفَكُونَ } كالجملةِ قبلَها ، و " أنَّى " بمعنى " كَيْفَ " ، و " يُؤفَكُونَ " ناصبٌ ل " أنَّى " ويُؤفَكُونَ : بمعنى يُصْرَفُونَ .

وفي تكرير الأمر بقوله : " انْظُرْ " " ثُمَّ انْظُرْ " دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاحِ الله تعالى لهم الآياتِ ، وبيانها ؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب ، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن تدبُّرها والإيمان بها ، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم ، قال الزمخشريُّ{[12375]} : " فإنْ قلت : ما معنى التراخي في قوله : " ثُمَّ انْظُرْ " ؟ قلت : معناه ما بين التعجُّبَيْنِ ، يعني : أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً ، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه " . انتهى ، يعني : أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ ، لا في الأزمنةِ ، ونحوه { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وسيأتي .

فصل في معنى الإفك

يُقَالُ : أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ ، والإفْكُ : الكَذِبُ ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه .

وقد أفَكَت الأرْضُ ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ .

والمعنى : كَيْف يصرفون عن الحَقِّ ؟

قال أهْلُ السُّنَّةِ{[12376]} : دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب ، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك ، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك .


[12373]:ينظر: الكشاف 1/665.
[12374]:ينظر: المحرر الوجيز 2/222.
[12375]:ينظر: الكشاف 1/665.
[12376]:ينظر: الفخر الرازي 12/52.