قوله تعالى : " وإذَا سَمِعُوا " " إذَا " شرطيةٌ جوابُها " تَرَى " ، وهو العاملُ فيها ، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان :
أظهرهما : أنَّ محلَّها الرفعُ ؛ نسقاً على خبر " أنَّهُم " الثانية ، وهو " لا يَسْتَكْبِرُونَ " ، أي : ذلك بأنَّ منهم كذا ، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ ، وأنهم إذا سمعُوا : فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله .
والثاني : أنَّ الجملةَ استئنافية ، أي : أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك ، والضميرُ في " سَمِعُوا " ظاهرُه : أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين ؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعودُ لبعضِهمْ ، وهم مَنْ جاء من " الحبشةِ " إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - في روايَةِ عطاء : يريد النَّجاشي وأصحابه{[12432]} ، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ " كهيعص " فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض ، وقال : واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً ، فما زالوا يَبْكُون ، حتى فَرَغَ جَعْفَرُ من القراءة ، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة{[12433]} ، قال : " لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك " .
و " مَا " في " مَا أنْزِلَ " تحتملُ الموصولةَ ، والنكرةَ الموصوفة ، وقوله تعالى : " تَرَى " بصَريَّةٌ ، فيكون قوله { تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ } جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ .
وقرئ{[12434]} شاذًّا : " تُرَى " بالبناء للمفعول ، " أعْيُنُهُمْ " رفعاً ، وأسند الفيض إلى الأعين ؛ مبالغةً ، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ ؛ كقول امرئِ القيسِ : [ الطويل ]
فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً *** عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي{[12435]}
والمرادُ : المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ ؛ كقوله : [ الطويل ]
قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا *** وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ{[12436]}
وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ ؛ فإنه قال{[12437]} : " فإنْ قلت : ما معنى { تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } ؟ قلتُ : معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه ، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء ، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب ، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء ، فجعلْتَ أعينهم ، كأنها تفيضُ بأنفسها ، أي : تسيلُ من الدمعِ ؛ من أجلِ البكاءِ ، من قولك ، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً " .
قوله تعالى " مِنَ الدَّمْعِ " فيه أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه متعلِّقٌ ب " تَفِيضُ " ، ويكون معنى " مِن " ابتداء الغاية ، والمعنى : تَفِيضُ من كثرة الدمع .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف ؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في " تَفِيضُ " قالهما أبو البقاء{[12438]} ، وقَدَّر الحالَ بقولك : " مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ " ، وفيه نظر ؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ ، ولا يجوزُ ذلك ، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً ، أي : تفيضُ كائنةً من الدمْعِ ، وليس المعنى على ذلك ، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون " مِنَ الدَّمْعِ " تمييزاً ؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز ، والأصل : تفيض دمعاً ؛ كقولك : " تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً " ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام ؟ قيل : إن ذلك لا يجوزُ ، لأنَّ التمييز ، إذا كان منقولاً من الفاعلية ، امتنع دخولُ " مِنْ " عليه ، وإن كانت مقدَّرة معه ، فلا يجوز : " تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ " ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب " مِنْ " ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً ، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [ الآية 92 ] جعله تمييزاً في قوله تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه ؛ قال - رحمه الله تعالى - : { تفيضُ من الدَّمْعِ } كقولك : " تَفِيضُ دَمْعاً " ، وهو أبلغُ من قولِك : يفيضُ دَمْعُها ؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ ، و " مِنْ " للبيان ؛ كقولك : " أفديكَ مِنْ رَجُلٍ " ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز ؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ ، وهو كونُه معرفةً ، وكونُه جُرَّ ب " مِنْ " وهو فاعلٌ في الأصْل ، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ ؛ فعلى هذا : تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده ، وهو الوجهُ الثالث .
الرابع : أنَّ " مِنْ " بمعنى الباء ، أي : تفيضُ بالدمْعِ ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] أي : بِطَرْفٍ ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى " مِنْ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ *** مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ{[12439]}
قوله : { مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحقِّ } " مِنْ " الأولَى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلقةٌ ب " تَفِيضُ " ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس ، أي : بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها ، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح ؛ قال{[12440]} - رحمه الله - : " فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين " مِنْ " و " مِنْ " في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } ؟ قلتُ : الأولَى لابتداء الغاية ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، وكان من أجله وبسببه ، والثانيةُ : لبيان الموصول الذي هو " ما عَرَفُوا " ، وتحتمل معنى التبعيض ؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كلَّه ، وقرَءُوا القرآن ، وأحاطُوا بالسنة " . انتهى ، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان ، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه ، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً ، و " مِن " الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ ؛ على أنها حال من " الدَّمْع " ، أي : في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ ، وهو معنى قول الزمخشريِّ ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب " تَفِيضُ " ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد ؛ فإنَّ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " لابتداءِ الغاية ؛ كما تقدَّم ، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ " مِنْ " في " مِنَ الدَّمْعِ " للبيانِ ، أو بمعنى الباء ، فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول ، وأمَّا " مِنَ الحَقِّ " فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أعْنِي من كذا ، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب " عَرَفُوا " ، وهو معنى قوله : " عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ " .
وقال أبو البقاء{[12441]} في " مِنَ الحَقِّ " : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ ، أي : مِمَّا عرفوه كائناً من الحق ، ويجوزُ أن تكون " مِنْ " في قوله تعالى : " مِمَّا عَرَفُوا " تعليليةً ، أي : إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري{[12442]} : " وكان من أجله وبسببه " ، فقد تحصل في " من " الأولى أربعةُ أوجه ، وفي الثالثةِ ضعفٌ ، أو منعٌ ؛ كما تقدَّم ، وفي " مِن " الثانية أربعةٌ أيضاً : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلَّق به : هل هو " تَفِيضُ " ، أو محذوفٌ ؛ على أنها حالٌ من الدمع ، وفي الثالثة : خمسةٌ : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها : هل هو محذوفٌ ، وهو " أعْنِي " ، أو نفسُ " عَرَفُوا " ، أو هو حالٌ ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً ؛ كما ذكره أبو البقاء .
وقوله تعالى : { تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } ، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفَةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً .
قوله تعالى : " يَقُولُون " الآية . فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه مستأنفٌ ، فلا محلَّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ .
الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في " أعْيُنَهُمْ " ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه ؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ ؛ فهو كقوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الثالث : أنه حالٌ من فاعل " عَرَفُوا " ، والعاملُ فيها " عَرَفُوا " ، قال أبو حيان{[12443]} لمَّا حكى كونه حالاً : " كذا قاله ابن عطية{[12444]} وأبو البقاء ، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها " ، قال شهاب الدين : أمَّا أبو البقاء ، فقد بَيَّنَ ذا الحال ، فقال{[12445]} : " يَقُولُونَ " حالٌ من ضمير الفاعل في " عَرَفُوا " ، فقد صرَّح به ، ومتى عُرِفَ ذو الحال ، عُرِفَ العاملُ فيها ؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهرُ : أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك ، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في " أعْيُنَهُمْ " ؛ بما معناه : أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه ، وإن كان المضافُ جُزْأهُ ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته ، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل " عَرَفُوا " ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها ، قال : " فالأوْلَى : أن يكون مستأنفاً " ، قال شهاب الدين : أمَّا ما جعله خطأ ، فالكلامُ معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا ، وأمَّا قوله : " يَلْزَمُ التَّقييدُ " ، فالجوابُ : أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم ، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم ، وقوله تعالى : " رَبَّنا آمَنَّا " في محلِّ نصب بالقول ، وكذلك : " فاكْتُبْنَا " إلى قوله سبحانه : " الصَّالِحِينَ " .
المعنى : يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ ، { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } يريد : أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - لقوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] .
وقيل : كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك .