لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين ، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين ، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ " {[12406]} ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم ، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - و " اللاَّمُ " في قوله : " لتَجدنَّ " هي لامُ القسم .
وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة{[12407]} : " اللامُ للابْتداءِ " ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ ، و " أشدَّ النَّاسِ " مفعولٌ أوَّل ، و " عَدَاوَةً " نصب على التمييز ، و " لِلَّذِينَ " متعلِّقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء ؛ لأنها مبنيةٌ عليها ؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
. . . وَرَهْبَةٌ *** عِقَابَكَ . . . {[12408]}
ويجوزَ أن يكون " لِلَّذِينَ " صفةً ل " عَدَاوَةً " فيتعلَّقَ بمحذوف ، و " اليَهُودَ " مفعولٌ ثانٍ ، وقال أبو البقاء{[12409]} : " ويجوزُ أن يكون " اليهُودَ " هو الأولَ ، و " أشَدَّ " هو الثاني " وهذا هو الظاهرُ ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم ، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى ، فإنْ قيل : متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً ، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني ؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ ، وهذا من ذاك ، فالجوابُ : أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك ، جاز التقديمُ والتأخيرُ ؛ ومنه قول : [ الطويل ]
بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا ، وبَنَاتُنَا *** بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ{[12410]}
ف " بَنُو أبْنَاء " هو المبتدأ ، و " بَنُونَا " خبره ؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء{[12411]} ؛ ومثلُه قول الآخر : [ البسيط ]
قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا *** وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا{[12412]}
" أكْرمُهَا " هو المبتدأ و " الأمُ الأحْيَاءِ " خبرُه ، وكذا " وَافِيهَا " مبتدأ و " أغْدَرُ النَّاس " خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله : " والذينَ أشْرَكُوا " عطفٌ على اليَهودِ ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها .
تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً : إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين ، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم ، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم{[12413]} .
وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } .
قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رضي الله عنهم - المُرادُ به : النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ ، وآمَنُوا به ، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى ؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين ، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ ، وهَدْمِ مَسَاجدِهِمْ ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم .
وقال آخرون{[12414]} : مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد ، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان ، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة ، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ ، فقال { ذلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قسِّيسين وَرُهْبانا } .
فإن قِيلَ : لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم ، بقوله تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ } ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيَةَ إلَيْهم .
فالجوابُ : لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً ، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ ، فكذلك أيْضاً ، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } [ الصف : 14 ] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم ، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى ؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها : " نَاصِرَة " ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها ، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم .
وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } [ الآية : 62 ] في البقرة .
قوله تعالى : " ذَلِكَ بأنَّ " مبتدأ وخبرٌ ، وتقدم تقريره ، و " مِنْهُمْ " خبر " أنَّ " ، و " قِسِّيسِينَ " اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء ، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر " ذَلِكَ " ، والقِسِّيسِينَ جمع " قِسِّيس " على فِعِّيلٍ ، وهو مثالُ مُبالغة ك " صدِّيقٍ " ، وقد تقدَّم ، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء ، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ ، يقال : " تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم " ، أي : تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسٌّ وقِسِّيسٌ ، وللدليلِ بالليلِ : قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ ، قاله الراغب{[12415]} ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى ؛ لتتبُّعِه العِلْمَ ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ : [ الرجز ]
أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ *** يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا{[12416]}
ويقال : قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً ، ويقال : قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها ، وقِسِّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ ، وقال الواحديُّ : " وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ " وأنشد المازنيُّ : [ الرجز ]
لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ *** . . .
أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ *** . . .
حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ{[12417]} *** . . .
وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ : [ البسيط ]
لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ *** يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ{[12418]}
هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ ، ثم قال : " وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ " يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : " قِسِّيسٌ " {[12419]} ، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم ؛ قال وَرَقَةُ : [ الوافر ]
بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ *** مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا{[12420]}
فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان ، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ " القُسّ " بضم القاف ، لا مصدراً ولا وصْفاً ، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ ، فهو عَلَمٌ ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية ، ويكون أصلُه " قَسٌّ " أو " قِسٌّ " بالفتح أو الكسر ؛ كما نقله ابن عطية ، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : " يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ " ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ ، فجمعُ تصحيحٍ ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : " ولو جُمِعَ قَسُوساً " ، كان صواباً ؛ لأنهما في معنًى واحدٍ ، يعني : " قِسًّا " و " قِسِّيساً " ، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على " قَسَاوِسَة " جمعوه على مثال المَهَالبَة ، والأصلُ : قَسَاسِسَة ، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ، وأنشدوا لأميَّة : [ البسيط ]
لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ *** . . . {[12421]}
قال الواحديُّ : " والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس " ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى ، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم ؟ .
والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ ، وقال أبو الهيثمِ : " إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً " ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر : [ الرجز ]
لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ *** لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ{[12422]}
ولو كان جمعاً ، لقال : " يَعْدُونَ " و " نَزَلُوا " بضمير الجمع ، وهذا لا حُجَّة فيه ؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ ؛ لتأوُّله بواحدٍ ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فالهاء في " بُطُونِهِ " تعود على الأنعامِ ؛ وقال : [ الرجز ]
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ{[12423]} *** . . .
في " بَرَدَ " ضميرٌ يعودُ على " ألْبَان " ، وقالوا : " هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه " ؛ وقال الآخر : [ الرجز ]
لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ *** على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ{[12424]}
إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه ، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً ؛ وقال كثيرٌ : [ الكامل ]
رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ *** يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا *** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا{[12425]}
قيل : ولا حُجَّة فيه ؛ لأنه قال : " والَّذِينَ " فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ ؛ لأجلِ هذا الجمعِ ، لا لكونِ " رُهْبَانٍ " جمعاً ، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ : [ الكامل ]
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا *** والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ{[12426]}
قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ " رَهابين ورَهَابنَة " ، جاز ، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً ؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة ، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ ، وهي المخافةُ ، وقال الراغب ، " والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً ، فمنْ جعلهُ واحداً ، جَمعه على رَهَابِينَ ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ " ، يعني : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة ، وقال الليث : " الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة " ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا ، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِ ، وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ ، وهو الخوفُ ، ولذلك قال الراغب : " والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة " ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] .
وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا ، قال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا ، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا ، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً ، وأمَّا النَّصَارى ، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا ، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم ، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ ، سَهْل الانقِيَاد له ، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود ؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم ، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا ، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة ، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } .
وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى ، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة ، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا ، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عليه الصلاة والسلام - : " حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ " {[12427]} .
فإن قيل : كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا } [ الحديد : 27 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام " {[12428]} ؛ فالجواب : أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ ، والغِلْظَةِ ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق .
قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على " أنَّ " المجرورةِ بالباء ، أي : ذلك بما تقدَّم ، وبأنَّهم لا يستكبرون .
المراد بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } يَعْنِي : وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر ، وهم السَّبْعُون ، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ .
وقال مُقَاتِل والكَلْبِي : كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً ، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَةٌ من الشَّام{[12429]} . وقال عطاء : كانوا ثَمَانِين رجُلاً ، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب ، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام{[12430]} .
وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام - ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه ، وآمَنُوا به{[12431]} ، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله : تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : عُلَمَاء .
قال قُطْرُب : القِسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ .