اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَانٗا وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ} (82)

لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين ، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين ، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين .

وقال - عليه الصلاة والسلام - : " ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ " {[12406]} ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم ، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - و " اللاَّمُ " في قوله : " لتَجدنَّ " هي لامُ القسم .

وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة{[12407]} : " اللامُ للابْتداءِ " ، وليس بشيء ، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ ، و " أشدَّ النَّاسِ " مفعولٌ أوَّل ، و " عَدَاوَةً " نصب على التمييز ، و " لِلَّذِينَ " متعلِّقٌ بها ، قَوِيَتْ باللامِ ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء ؛ لأنها مبنيةٌ عليها ؛ فهي كقوله : [ الطويل ]

. . . وَرَهْبَةٌ *** عِقَابَكَ . . . {[12408]}

ويجوزَ أن يكون " لِلَّذِينَ " صفةً ل " عَدَاوَةً " فيتعلَّقَ بمحذوف ، و " اليَهُودَ " مفعولٌ ثانٍ ، وقال أبو البقاء{[12409]} : " ويجوزُ أن يكون " اليهُودَ " هو الأولَ ، و " أشَدَّ " هو الثاني " وهذا هو الظاهرُ ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم ، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى ، فإنْ قيل : متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً ، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني ؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ ، وهذا من ذاك ، فالجوابُ : أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك ، جاز التقديمُ والتأخيرُ ؛ ومنه قول : [ الطويل ]

بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا ، وبَنَاتُنَا *** بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ{[12410]}

ف " بَنُو أبْنَاء " هو المبتدأ ، و " بَنُونَا " خبره ؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء{[12411]} ؛ ومثلُه قول الآخر : [ البسيط ]

قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا *** وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا{[12412]}

" أكْرمُهَا " هو المبتدأ و " الأمُ الأحْيَاءِ " خبرُه ، وكذا " وَافِيهَا " مبتدأ و " أغْدَرُ النَّاس " خبره ، والمعنى على هذا ، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله : " والذينَ أشْرَكُوا " عطفٌ على اليَهودِ ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها .

فصل

تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً : إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين ، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم ، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم{[12413]} .

وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } .

قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رضي الله عنهم - المُرادُ به : النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ ، وآمَنُوا به ، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى ؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين ، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ ، وهَدْمِ مَسَاجدِهِمْ ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم .

وقال آخرون{[12414]} : مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد ، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان ، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة ، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ ، فقال { ذلِكَ بأنَّ مِنْهُمْ قسِّيسين وَرُهْبانا } .

فإن قِيلَ : لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم ، بقوله تعالى : { الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ } ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيَةَ إلَيْهم .

فالجوابُ : لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً ، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ ، فكذلك أيْضاً ، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } [ الصف : 14 ] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم ، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى ؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها : " نَاصِرَة " ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها ، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم .

وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } [ الآية : 62 ] في البقرة .

قوله تعالى : " ذَلِكَ بأنَّ " مبتدأ وخبرٌ ، وتقدم تقريره ، و " مِنْهُمْ " خبر " أنَّ " ، و " قِسِّيسِينَ " اسمها ، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء ، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر " ذَلِكَ " ، والقِسِّيسِينَ جمع " قِسِّيس " على فِعِّيلٍ ، وهو مثالُ مُبالغة ك " صدِّيقٍ " ، وقد تقدَّم ، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء ، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ ، يقال : " تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم " ، أي : تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ ، ويُقال لرئيس النصارى : قِسٌّ وقِسِّيسٌ ، وللدليلِ بالليلِ : قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ ، قاله الراغب{[12415]} ، وقال غيرُه : القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى ؛ لتتبُّعِه العِلْمَ ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ : [ الرجز ]

أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ *** يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا{[12416]}

ويقال : قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً ، ويقال : قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها ، وقِسِّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ ، وقال الواحديُّ : " وقد تكلَّمتِ العربُ بالقسِّ والقِسِّيسِ " وأنشد المازنيُّ : [ الرجز ]

لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ *** . . .

أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ *** . . .

حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ{[12417]} *** . . .

وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ : [ البسيط ]

لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ *** يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ{[12418]}

هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ ، ثم قال : " وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ : ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه ، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ " يعني : بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : " قِسِّيسٌ " {[12419]} ، وقال قطربٌ : القَسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بلغة الرُّوم ؛ قال وَرَقَةُ : [ الوافر ]

بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ *** مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا{[12420]}

فعلى هذا : القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان ، قلتُ : وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة ، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ " القُسّ " بضم القاف ، لا مصدراً ولا وصْفاً ، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ ، فهو عَلَمٌ ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية ، ويكون أصلُه " قَسٌّ " أو " قِسٌّ " بالفتح أو الكسر ؛ كما نقله ابن عطية ، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ ، وهو الذي قال فيه عليه السلام : " يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ " ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ ، فجمعُ تصحيحٍ ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : " ولو جُمِعَ قَسُوساً " ، كان صواباً ؛ لأنهما في معنًى واحدٍ ، يعني : " قِسًّا " و " قِسِّيساً " ، قال : ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على " قَسَاوِسَة " جمعوه على مثال المَهَالبَة ، والأصلُ : قَسَاسِسَة ، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً ، وأنشدوا لأميَّة : [ البسيط ]

لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ *** . . . {[12421]}

قال الواحديُّ : " والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس " ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر مشتقًّا من هذا الاسْمِ ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى ، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حملَ مَنْ قال : إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم ؟ .

والرُّهْبَانُ : جمعُ رَاهِبٍ ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ ، وقال أبو الهيثمِ : " إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً " ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر : [ الرجز ]

لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ *** لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ{[12422]}

ولو كان جمعاً ، لقال : " يَعْدُونَ " و " نَزَلُوا " بضمير الجمع ، وهذا لا حُجَّة فيه ؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ ؛ لتأوُّله بواحدٍ ؛ كقوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فالهاء في " بُطُونِهِ " تعود على الأنعامِ ؛ وقال : [ الرجز ]

وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ{[12423]} *** . . .

في " بَرَدَ " ضميرٌ يعودُ على " ألْبَان " ، وقالوا : " هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه " ؛ وقال الآخر : [ الرجز ]

لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ *** على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ{[12424]}

إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه ، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً ؛ وقال كثيرٌ : [ الكامل ]

رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ *** يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا

لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا *** خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا{[12425]}

قيل : ولا حُجَّة فيه ؛ لأنه قال : " والَّذِينَ " فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ ؛ لأجلِ هذا الجمعِ ، لا لكونِ " رُهْبَانٍ " جمعاً ، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ : [ الكامل ]

رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا *** والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ{[12426]}

قال أبو الهيثم : وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ " رَهابين ورَهَابنَة " ، جاز ، وإنْ قلت : رَهَبانِيُّونَ كان صواباً ؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة ، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ ، وهي المخافةُ ، وقال الراغب ، " والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً ، فمنْ جعلهُ واحداً ، جَمعه على رَهَابِينَ ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ " ، يعني : أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة ، وقال الليث : " الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب : التعبُّد في صَوْمَعَة " ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس ، ولا حاجةَ إلى هذا ، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِ ، وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ ، وهو الخوفُ ، ولذلك قال الراغب : " والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة " ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] .

وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ : أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا ، قال : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا ، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا ، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً ، وأمَّا النَّصَارى ، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا ، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم ، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ ، سَهْل الانقِيَاد له ، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .

وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود ؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ ، واليَهُودُ : لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم ، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا ، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة ، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } .

وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى ، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة ، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا ، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عليه الصلاة والسلام - : " حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ " {[12427]} .

فإن قيل : كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا } [ الحديد : 27 ] ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام " {[12428]} ؛ فالجواب : أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ ، والغِلْظَةِ ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق .

قوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } نسقٌ على " أنَّ " المجرورةِ بالباء ، أي : ذلك بما تقدَّم ، وبأنَّهم لا يستكبرون .

فصل

المراد بقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } يَعْنِي : وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر ، وهم السَّبْعُون ، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ .

وقال مُقَاتِل والكَلْبِي : كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً ، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَةٌ من الشَّام{[12429]} . وقال عطاء : كانوا ثَمَانِين رجُلاً ، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب ، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام{[12430]} .

وقال قتادة : نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام - ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه ، وآمَنُوا به{[12431]} ، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله : تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي : عُلَمَاء .

قال قُطْرُب : القِسُّ والقِسِّيسُ : العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ .


[12406]:رواه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في "الضعفاء" عن أبي هريرة مرفوعا وفي رواية ابن حبان يهودي، وهم الإفراد، وأخرجه الديلمي بلفظ: ما خلا قط يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله، وقد أطال الكلام عليه السخاوي في بعض الحوادث، فأقول: ويؤيد ذلك ما ذكره شيخنا المرحوم يونس المصري أنه كان يقرأ على يهودي يوما في المنطق، فقال له وقد انفرد به: لا تأتني إلا ومعك سكين أو نحوها؛ لأن اليهودي إذا خلا بمسلم ولم يكن معه سلاح، لزمه التعرض لقتله، وقال النجم: واشتهر في كلام الناس: أنه ما خلا قط رافضي بسني إلا حدثته نفسه بقتله، وهي من الخصال التي شاركت الرافضة فيها اليهود.
[12407]:ينظر: المحرر الوجيز 2/225.
[12408]:تقدم.
[12409]:ذكر في الإملاء 1/223 أن اليهود: هو المفعول الثاني لتجد.
[12410]:البيت للفرزدق ينظر: خزانة الأدب 1/444، الإنصاف 1/66، شرح شواهد المغني 2/848، شرح المفصل 1/99، شرح الأشموني 1/99، شرح ابن عقيل 119، الدرر 2/24، الحيوان 1/346، أوضح المسالك 1/106، مغني اللبيب 2/452، همع الهوامع 1/102، تخليص الشواهد 198، دلائل الإعجاز 240، ارتشاف الضرب 2/41، الدر المصون 2/590.
[12411]:الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، فلا بد من تقديمه ليتحقق، ويجوز تأخيره حيث لا مانع نحو: قائم زيد، ويجب التزام الأصل، لأسباب أحدها: أن يوهم التقديم ابتدائية الخبر، بأن يكونا معرفتين أو نكرتين متساويتين، ولا قرينة، نحو: زيد أخوك، وأفضل منك أفضل مني، فإن كان قرينة، جاز التقديم، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وقوله بنونا بنو أبنائنا؛ حيث يقوم الخبر وهو "بنونا" على المبتدأ وهو "بنو أبنائنا" مع استواء المبتدأ والخبر في التعريف، فإن كلا منهما مضاف إلى ضمير المتكلم، وإنما ساغ ذلك؛ وجود قرينة معنوية تعين المبتدأ منهما، فإنك قد عرفت أن الخبر هو محط الفائدة؛ فما يكون فيه أساس التشبيه، وهو الذي تذكر الجملة لأجله فهو الخبر، ألا ترى أنه لا يحسن أن يكون بنونا هو المبتدأ لأنه يلزم فيه إلا يكون له بنون إلا بني أبنائه، وليس المعنى على ذلك، فجاز تقديم الخبر هنا مع كونه معرفة، لظهور المعنى وأمن اللبس. واعترض ابن هشام على ابن الناظم استشهاده بهذا البيت: قد يقال إن هذا البيت لا تقديم فيه ولا تأخير، وأنه جاء على التشبيه المقلوب، كقول ذي الرمة: رمل كأوراك العذارى قطعنه. فكان ينبغي أن يستشهد بما أنشده في "شرح التسهيل" من قول حسان بن ثابت: قبيلة ألأم الأحياء أكرمها *** وأغدر الناس بالجيران وافيها إذ المراد الإخبار عن أكرمها بأنه ألأم الأحياء، وعن وافيها بأنه أغدر الناس لا العكس. ويجاب عنه من وجهين: أحدهما: أن التشبيه المقلوب من الأمور النادرة، والحمل على ما يندر وقوعه لمجرد الاحتمال مما لا يجوز أن يصار إليه، وإلا فإن كل كلام يمكن تطرق احتمالات بعيدة إليه، فلا تكون ثمة طمأنينة على إفادة غرض المتكلم بالعبارة. وثانيهما: أن ما ذكره في بيت حسان من أن الغرض الإخبار عن أكرم هذه القبيلة بأنه ألأم الأحياء، وعن أوفى هذه القبيلة بأنه أغدر الأحياء، هذا نفسه يجري في بيت الشاهد، فيقال: إن غرض المتكلم الإخبار عن أبناء أبنائهم؛ بأنهم يشبهون أنباءهم وليس الغرض أن يخبر عن بنيهم بأنهم يشبهون بني أبنائهم، فلما صح أن يكون غرض المتكلم معينا للمبتدأ، صح الاستشهاد ببيت الشاهد. ومنهم من أجاز التقديم مطلقا، ولم يلتفت على إبهام الانعكاس، وقال: الفائدة تحصل للمخاطب سواء قدم خبر أم أخر، وقد أجاز ابن السيد في قوله: "شر النساء البحاتر"، أن يكون شر النساء مبتدأ و"البحاتر" خبره، وعكسه؛ ومنهم من منع التقديم مطلقا، ولم يفصل بين ما دل عليه المعنى وغيره، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه، وذهب البصريون على جواز التقديم، واستدلوا بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا. ينظر المصادر السابقة.
[12412]:البيت لحسان بن ثابت. ينظر: ديوانه(216)، الهمع 1/102، الدرر 1/76، الدر المصون 2/590.
[12413]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/4) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي ومجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/537) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وذكره البغوي 2/56.
[12414]:ينظر: الرازي 12/56.
[12415]:ينظر: المفردات (418).
[12416]:ينظر: ديوانه 2/121 البحر المحيط 4/4 الدر المصون 2/590، اللسان (قسس)، برواية: يمسين من قس الأذى غوافلا *** لا جعبريات ولا طهاملا
[12417]:الأبيات للعجاج ينظر: ملحق ديوانه 2/295، اللسان (قسس) الدر المصون 2/591.
[12418]:ويروى البيت: لو كان منفلت كانت قساقسة *** ... حيث ورد فيه الجمعان: قساوسة وقساقسة. ينظر: ديوانه 33، البحر 414. اللسان: قسس، الدر المصون 2/591.
[12419]:ذكره القرطبي في تفسيره" (6/166) عن عروة بن الزبير.
[12420]:ينظر: السيرة 1/192. الدر المصون 2/591.
[12421]:تقديم قريبا.
[12422]:ينظر: الطبري 5/5، القرطبي 6/258، المحرر الوجيز 2/226، الدر المصون 2/591.
[12423]:ينظر: الدر المصون 2/592.
[12424]:ينظر: شرح المفصل 9/80، وشرح الملوكي 387 الدر المصون 2/592.
[12425]:ينظر: ديوانه 441، 442، الخصائص 1/27، شرح ابن عقيل 2/388-389، الدر المصون 2/592.
[12426]:ينظر: ديوانه 305، معاني القرآن للفراء 2/304 القرطبي 6/258، المحرر الوجيز 2/226 الطبري 5/5، الدر المصون 2/592.
[12427]:أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (10501) عن الحسن مرسلا وأسنده الديلمي في الفردوس وتبعه ولده بلا إسناد عن علي رفعه به، وهو عند البيهقي أيضا في الزهد وأبي نعيم في ترجمة الثوري من الحلية من قول عيسى ابن مريم عليه السلام وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له.. من قول مالك بن دينار. وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له، من قول سعد هذا. وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه. وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم عليه بالوضع، لقول ابن المديني مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل مل يسقط منها، وقال أبو زرعة كل شيء يقوله الحسن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث وليته ذكرها، وقال الدارقطني في مراسيله ضعف، وللديلمي عن أبي هريرة رفعه: أعظم الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا، وجمعهم الدنانير والدراهم، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق.
[12428]:تقدم.
[12429]:ينظر: تفسير القرطبي (6/166) عن مقاتل.
[12430]:ينظر: تفسير القرطبي (6/166) عن مقاتل.
[12431]:ينظر: المصدر السابق.