قوله تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } الآية . أي : من بعد مُضيِّه وذهابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب " اتَّخَذَ " ، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ ، والثَّانية للتَّبعيضِ ، ويجوزُ أن يكون " مِن حُلِيِّهِمْ " متعلٌِّقاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم .
وقرأ الأخوان{[16823]} مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش .
والباقون بضمِّ اللاَّم ، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع " حَلْيِ " ك " طَيٍّ " ، فجمع على " فُعُول " ك " فَلْس " و " فُلُوس " فأصله ، حُلُويٌّ كثُدِي في " ثُدُوي " ، فاجتمعت الياء والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواوُ ياء ، وأدغمت ، وكُسرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء ، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ : تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا ، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على " فُعُول " من المعتلِّ اللاَّم ، سواء كان الاعتلال بالياء ك " حُلِيّ " و " ثُدِي " أم بالواو نحو : " عُصِيّ " ، و " دُلِيّ " جمع عَصَا ودَلْو . وقرأ يعقوبُ " من حَلِيِّهم " بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ ، وهي محتملةٌ لأن يكون " الحَلْي " مفرداً أريد به الجمعُ ، أو اسمُ جنسٍ مفرده " حَلْيَة " على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ ، و " عِجْلاً " مفعولُ " اتَّخَذَ " و " مِنْ حُلِيِّهم " تقدَّم حكمه . ويجوزُ أن يكون " اتَّخذَ " متعديةً لاثنين بمعنى " صَيَّرَ " فيكون : " مِنْ حُلِيِّهم " هو المفعول الثاني .
وقال أبُو البقاءِ : " وهو محذوفٌ ، أي : إلهاً " ولا حاجة إليه . والحَلْيُ : اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ .
و " جَسَداً " فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّهُ نعتٌ . الثَّانِي : أنَّهُ عطفُ بيان ، والثالثُ : أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ ، وهو أحسنُ ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً ، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ ، أو ممتنع عند الجمهور ، وإنَّما قال : " جَسَداً " لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً ، أو مرقوماً . والجسد : الجثة .
قوله : " لَهُ خُوَارٌ " في محل النَّصْبِ نعتاً ل " عِجْلاً " ، وهذا يُقَوِّي كون " جَسَداً " نعتاً ؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة ، وه صوتُ البقرِ خاصّةً ، وقد يُسْتَعَارُ للبعير ، والخَوَرُ : الضَّعْفُ ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ : مجرى الرَّوث ، وصوت البهائم أيضاً .
وقرأ عليٌّ {[16824]}- رضي الله عنه - وأبُو السَّمَّال : جُؤار بالجيم والهَمْز ، وهو الصَّوت الشديد .
قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي ، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم ، فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السَّامريّ تلك الحلي ، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر ، من قرية يقال لها سامرة ، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم ، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه ، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً ، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل ؛ فتحول عِجْلاً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ .
وقيل : كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج{[16825]} .
قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة : إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص .
وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح ، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل .
وقال آخرون : إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس ، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها .
قيل : إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة ، وقيل : كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وقال وهب : كان يَخُورُ ولا يتحَرّك .
وقال السدي : كان يخور ويمشي . ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى .
فإن قيل لِمَ قال : { واتخذ قَوْمُ موسى } والمتّخذ هو السّامريُّ ؟
فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم ، ولأنَّ رجلاً منهم باشره .
كما يقال : بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائِلُ والفاعِلُ واحد ، والثاني : أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به ، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه .
فإن قيل : لم قال : " مِنْ حُلِيِّهم " ولم يكن الحلي لهم ، وإنَّما اسْتَعارُوهَا ؟
فالجوابُ : أنَّه لَما أهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } - إلى قوله - { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الدخان :25- 28 ]
قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى .
قال الحسنُ : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، لعموم هذه الآية .
ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } [ الأعراف : 151 ] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك . وقيل : بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .
قوله : " ألَمْ يَرَوْا " إن قلنا : إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين ، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً ، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ ، وإن قلنا : إنَّها متعدية لواحد بمعنى : صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين ، والثاني هو : مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك ، ليتوَجَّه عليها الإنكار ، والتقدير : يعبدوه ، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية ، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية ، وهو بعيدٌ .
اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم ، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً ، وإمَّا حيواناً ، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ .
ثم قال تعالى : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل .
قوله : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } يجُوزُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّهَا استئنافيةٌ ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك ، ويجوزُ أن تكون حالاً ، أي : وقد كانُوا ، أي : اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.