اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱتَّخَذَ قَوۡمُ مُوسَىٰ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِنۡ حُلِيِّهِمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٌۚ أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّهُۥ لَا يُكَلِّمُهُمۡ وَلَا يَهۡدِيهِمۡ سَبِيلًاۘ ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَٰلِمِينَ} (148)

قوله تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ } الآية . أي : من بعد مُضيِّه وذهابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب " اتَّخَذَ " ، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ ، والثَّانية للتَّبعيضِ ، ويجوزُ أن يكون " مِن حُلِيِّهِمْ " متعلٌِّقاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم .

وقرأ الأخوان{[16823]} مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم ، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش .

والباقون بضمِّ اللاَّم ، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح ، وهو في القراءتين جمع " حَلْيِ " ك " طَيٍّ " ، فجمع على " فُعُول " ك " فَلْس " و " فُلُوس " فأصله ، حُلُويٌّ كثُدِي في " ثُدُوي " ، فاجتمعت الياء والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواوُ ياء ، وأدغمت ، وكُسرت عين الكلمة ، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء ، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ : تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا ، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على " فُعُول " من المعتلِّ اللاَّم ، سواء كان الاعتلال بالياء ك " حُلِيّ " و " ثُدِي " أم بالواو نحو : " عُصِيّ " ، و " دُلِيّ " جمع عَصَا ودَلْو . وقرأ يعقوبُ " من حَلِيِّهم " بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ ، وهي محتملةٌ لأن يكون " الحَلْي " مفرداً أريد به الجمعُ ، أو اسمُ جنسٍ مفرده " حَلْيَة " على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ ، و " عِجْلاً " مفعولُ " اتَّخَذَ " و " مِنْ حُلِيِّهم " تقدَّم حكمه . ويجوزُ أن يكون " اتَّخذَ " متعديةً لاثنين بمعنى " صَيَّرَ " فيكون : " مِنْ حُلِيِّهم " هو المفعول الثاني .

وقال أبُو البقاءِ : " وهو محذوفٌ ، أي : إلهاً " ولا حاجة إليه . والحَلْيُ : اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ .

و " جَسَداً " فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنَّهُ نعتٌ . الثَّانِي : أنَّهُ عطفُ بيان ، والثالثُ : أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ ، وهو أحسنُ ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً ، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ ، أو ممتنع عند الجمهور ، وإنَّما قال : " جَسَداً " لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً ، أو مرقوماً . والجسد : الجثة .

وقيل : ذات لحم ودمٍ .

قوله : " لَهُ خُوَارٌ " في محل النَّصْبِ نعتاً ل " عِجْلاً " ، وهذا يُقَوِّي كون " جَسَداً " نعتاً ؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة ، وه صوتُ البقرِ خاصّةً ، وقد يُسْتَعَارُ للبعير ، والخَوَرُ : الضَّعْفُ ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ : مجرى الرَّوث ، وصوت البهائم أيضاً .

وقرأ عليٌّ {[16824]}- رضي الله عنه - وأبُو السَّمَّال : جُؤار بالجيم والهَمْز ، وهو الصَّوت الشديد .

فصل

قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير : كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي ، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم ، فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل ، فجمع السَّامريّ تلك الحلي ، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر ، من قرية يقال لها سامرة ، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم ، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه ، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً ، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل ؛ فتحول عِجْلاً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ .

وقيل : كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه ، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج{[16825]} .

قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة : إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً ، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص .

وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح ، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل .

وقال آخرون : إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف ، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس ، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار ، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها .

قيل : إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة ، وقيل : كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم . وقال وهب : كان يَخُورُ ولا يتحَرّك .

وقال السدي : كان يخور ويمشي . ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى .

فإن قيل لِمَ قال : { واتخذ قَوْمُ موسى } والمتّخذ هو السّامريُّ ؟

فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم ، ولأنَّ رجلاً منهم باشره .

كما يقال : بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا ، والقائِلُ والفاعِلُ واحد ، والثاني : أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به ، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه .

فإن قيل : لم قال : " مِنْ حُلِيِّهم " ولم يكن الحلي لهم ، وإنَّما اسْتَعارُوهَا ؟

فالجوابُ : أنَّه لَما أهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } - إلى قوله - { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الدخان :25- 28 ]

فصل

قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى .

قال الحسنُ : كلهم عبدوا العجل غير هارون ، لعموم هذه الآية .

ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي } [ الأعراف : 151 ] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك . وقيل : بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .

قوله : " ألَمْ يَرَوْا " إن قلنا : إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين ، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ ، تقديره : واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً ، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ ، وإن قلنا : إنَّها متعدية لواحد بمعنى : صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين ، والثاني هو : مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك ، ليتوَجَّه عليها الإنكار ، والتقدير : يعبدوه ، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية ، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية ، وهو بعيدٌ .

فصل

اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم ، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً ، وإمَّا حيواناً ، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ .

ثم قال تعالى : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل .

قوله : { اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } يجُوزُ فيها وجهان : أظهرهما : أنَّهَا استئنافيةٌ ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك ، ويجوزُ أن تكون حالاً ، أي : وقد كانُوا ، أي : اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم .


[16823]:ينظر: السبعة 294، والحجة 4/80، وإعراب القراءات 1/207، وحجة القراءات 296، وإتحاف 2/62، 63.
[16824]:ينظر: الكشاف 2/160، والبحر المحيط 4/290، والدر المصون 3/344.
[16825]:ذكره الرازي في تفسيره 15/6.