قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } . قوله : في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ ، وأن تكون للعهد ؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا .
وقال ابنُ عطيَّة{[16797]} أل عوض من الضمير ، تقديره : في ألواحه ، وهذا كقوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] أي : مأواه . أمَّا كون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون . وأمَّا قوله : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر ، والكوفيون : يجعلون أل عوضاً من الضمير . والبصريون : يُقَدِّرُونَهُ ، أي : هي المأوى له ، وأما في هذه الآية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك .
وفي مفعول " كتبنا " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ " موعِظَةً " ، أي : كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً . و { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } على هذا فيه وجهان ، أحدهما : متعلِّقٌ ب " كَتَبْنَا " والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل " مَوْعِظَةً " فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً ، و " لِكُلِّ شيءٍ " صفة ل " تفصيلاً " .
والثاني : أنَّهُ { مِنْ كُلِّ شَيْءً } .
قال الزمخشريُّ { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } في محل نصب مفعول " كَتَبْنَا " ، و " مَوعِظَةً وتفْصِيلاً " بدل منه ، والمعنى : كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ .
الثالث : أنَّ المفعول محل المجرور .
وقال أبُو حيَّان{[16798]} - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري - : ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ ، وهو أن يكونَ مفعولُ " كَتَبْنَا " موضع المجرور ، كما تقولُ : " أكلت من الرغيف " و " مِنْ " للتبعيض ، أي : كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء ، وانتصب " مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً " على المفعول من أجله ، أي : كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل .
قال شهابُ الدِّينِ{[16799]} : " والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري ، فليس وجهاً ثالثاً " .
قوله : " بِقُوَّةٍ " حالٌ : إمَّا من الفاعل ، أي : ملتبساً بقوة ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسه بقوة ، أَي : بقوَّةِ دلائلها وبراهينها ، والأول أوضح . والجملةُ من قوله : " فَخُذْهَا " يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } وعاد الضَّميرُ على معنى " ما " لا على لفظها . ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر ، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة " كَتَبْنَا " والتقديرُ : وكتبنا فقلنا : خُذْهَا ، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ ، أو على الرِّسالاتِ ، أو على كُلِّ شيءٍ ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء .
قال القرطبيُّ : " فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني . ويقال : رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين ، والرِّجليْنِ " .
قال الكلبيُّ : خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة ، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر{[16800]} ، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل : كانت عشرة ، وقيل سبعة .
وقال الواحديُّ : كانت من زُمُردَة .
وقيل : من زبرجدة خضراء ، وقيل : ياقوتة ، وقيل : من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً .
وقال وهْبٌ : من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى .
قيل : رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها ، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة ، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك ، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به ، وإلاّ وجب السُّكوت عنه . وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم ، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم .
وقوله : { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } ثم قال : " فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ " أي : بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ .
قوله : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } . الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله ، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا ، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك ، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ .
وقيل : الجزم على إضمار اللام تقديره : ليأخذوا ؛ كقوله : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ *** إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ{[16801]}
وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب " قُلْ " ، وهنا لم يُذْكَرْ " قُلْ " ، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه ؛ لأنَّ معنى " وأمُرْ " و " قُلْ " واحد .
قوله : " بِأحْسَنِهَا " يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في : " بِقُوَّةٍ " ، وعلى هذا فمفعولُ " يَأخُذُوا " محذوفٌ تقديرُه : يَأخُذُوا أنفسهم ، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة ، وأحسنها مفعول به ، والتقديرُ : يأخُذُوا أحسنها كقوله : [ البسيط ]
. . . *** سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ{[16802]}
وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] .
و " أحسن " يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها ، وأن لا تكون بل بمعنى " حَسَنَة " .
إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا *** بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ{[16803]}
فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة ، وجب أن يكون الكلُّ حسناً .
وقوله : { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن ، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض .
وأجابُوا بوجوه : منها : أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن ، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو ، والانتصار ، والصبر ، أي : فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً ، لقوله : { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } [ الزمر : 55 ] وقوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] .
قالوا : فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب .
{ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } أي : بحسنها ، وكلها حسن ؛ كقوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم . ومنها : أن الحسن يدخلُ تحته الواجب ، والمندوب ، والمباح وأحسن هذه الثلاثة : الواجبُ ، والمندوبُ .
قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً ، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين ، أحدهما : ضمير المخاطبين ، والثاني : دَارَ .
والثاني : أنَّها قلبية ، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره ، والمعنى : سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ : وقيل : " دَارَ الفاسِقِينَ " ما دَارَ إليه أمرهم ، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام .
قال ابنُ عطيَّة{[16804]} - معترضاً على هذا الوجه - : ولَوْ كَانَ من رؤية القلب ، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل .
ولو قال قائل : المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى ، فهو مُقَدَّرٌ أي : مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال : إنَّهَا جهنم - قيل له : لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان ، لا يليق بكتاب الله تعالى .
قال أبُو حيان{[16805]} : " وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب " أعْلَمَ " لدلالة المعنى عليه جائزٌ ، فيجوزُ في جواب : هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً ؟ أعلمتُ زيداً عمراً ، وتحذف " منطلقاً " لدلالة الكلام السَّابق عليه " .
قال شهابُ الدِّين{[16806]} : هذا مُسَلَّمٌ ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام ، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ ؟
ثم قال : " وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع ، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً ، والثانِي ، والثَّالِثُ في باب " أعْلَمَ " يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً " .
قال شهابُ الدِّين : " حذفُ الاختصار لدليلٍ ، ولا دليلَ هَنَا " .
ثم قال : " وفي قوله لأنَّهَا - أي : " سَأريكُمْ " - داخلةٌ على المبتدأ ، والخبر تجوُّزٌ " ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر . وقرأ الحسن{[16807]} : " سَأوريكُمْ " بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان : أحدهما قاله الزمخشريُّ - : " وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ : أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ ، فإن المعنى : بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه " .
والثاني : - ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع ، فيتولَّد منها الواو ، قال " وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو " .
قال شهابُ الدِّين : وهذا كقول الشاعر : [ البسيط ]
اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا *** يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ
وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي *** مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ{[16808]}
لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم . وقرأ ابنُ{[16809]} عبَّاسٍ ، وقسامة بن زيد " سأورثُكُمْ " قال الزمخشريُّ : وهي قراءة حسنةٌ ، يصحِّحُهَا قوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم } [ الأعراف : 137 ] .
في قوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } وجهان : الأول : أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : قال ابن عباس{[16810]} والحسنُ ومجاهدٌ : هي : جهنم وهي مصيرهم في الآخرة ، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم .
وثانيهما : قال قتادةُ وغيره : سأدخلكم الشَّام ؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ ، والعمالقةِ ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها{[16811]} .
الوجه الثاني : المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر ، قالهُ عطيةُ العوفيُّ ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة .
وقال السُّدِّيُّ : هي مصارع الكفار{[16812]} .