اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡاْ عَلَىٰ قَوۡمٖ يَعۡكُفُونَ عَلَىٰٓ أَصۡنَامٖ لَّهُمۡۚ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ} (138)

قوله : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ } كقوله : { فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية ، وأن تكون للحاليَّة ، كقوله : [ الوافر ]

. . . *** تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا{[16762]}

وقد تقدَّم . و " جاوز " بمعنى : جاز ، ف " فاعل " بمعنى " فَعَل " .

وقرأ الحسنُ{[16763]} ، وإبراهيم ، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى " فَعَلَ " المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر .

قوله : يَعْكُفُونَ صفة ل " قَوْم " . وقرأ الأخوان{[16764]} " يَعْكِفُونَ " بكسر الكاف ، وتروى عن أبي عمرو أيضاً ، والباقون بالضمِّ ، وهما لغتان في المضارع ك " يَعْرشُون " . وقد تقدَّم معنى " العكوف " واشتقاقه في البقرة .

قال قتادة : كان أولئك القومُ من لَخْم ، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ{[16765]} .

وقال ابنُ جريج : كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر ، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ{[16766]} .

قال الكلبيُّ : عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه ، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ .

قوله : { قَالُواْ يا موسى اجعل لَّنَا إلها } أي : مثالاُ نعبده . ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ ، وإنَّمَا معناه : أجعل لنا شيئاً نعظمه ، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة ، وكان ذلك لشدَّة جهلهم ، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم ، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام ، وهو خالقُ الجسمِ ، والحياةِ والقدرةِ ، والعقلِ ، والأشياءِ المنتفع بها . وليس ذلك إلاَّ الله تعالى .

فصل

واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم ، وإنَّما صدرَ من بعضهم ؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون ، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ .

قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ل " إلهاً " ، أي : إلهاً مماثلاُ لإلههم .

وفي " ما " ثلاثةُ أوجه : أحدها : موصولةٌ حرفية ، أي : تتأوَّلُ بمصدرِ ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة ، وإذا حُذِفَتْ صلة " ما " المصدريَّة ، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها ، كقولهم : لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ ، أي : ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه ، وكذا هنا تقديره : كما ثبت لهم آلهة ، ف " آلهة " فاعل " ثبت " المقدر ، أي : كما أنَّ " أنَّ " المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل " ثبت " المقدر .

وقال أبُو البقاءِ{[16767]} - هذا الوجه - ليس بجيد " والجملة بعدها صلةٌ لها ، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل " .

فصل

قال شهابُ الدِّينِ : كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد ؛ لأنَّ " ما " المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور ، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك ، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله : [ الكامل ]

وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ *** فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ{[16768]}

ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل ، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة ، أي : كما استقرَّ لهم آلهةٌ .

الثاني : أن تكون " ما " كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل ، فإنَّهَا حرفُ جر ، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة ، والفعليَّة ، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب ، بل يجوزُ في الكافِ وفي " رُبَّ " مع " ما " الزَّائدة بعدهما وجهان : العَمَلُ والإهمالُ ، وعلى ذلك قول الشَّاعر : [ الطويل ]

وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ *** كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ{[16769]}

وقول الآخر : [ الخفيف ]

رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ *** وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ{[16770]}

وروي برفع " النَّاس ، والجامل " وجرِّهما ، هذا إذا أمكن الإعمالُ ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية ، إذا قيل : بأن " ما " زائدة .

الثالثُ : أن تكون " ما " بمعنى " الذي " ، و " لَهُمْ " صلتها ، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر ، و " آلهة " بدلٌ من ذلك الضَّمير ، والتَّقديرُ : كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة .

وقال أبُو البقاءِ{[16771]} - في هذا الوجه - : والعَائِدُ محذوفٌ ، و " آلهة " بدلٌ منه ، تقديره : كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوصف بالحذف ، بل بالاستتار .


[16762]:تقدم.
[16763]:ينظر: الدر المصون 3/334.
[16764]:ينظر: النشر 2/271 الحجة 294، السبعة 292، إتحاف فضلاء البشر 2/61، الدر المصون 3/334-335.
[16765]:أخرجه الطبري في تفسيره 6/46 وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/213) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.
[16766]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/46) وابن المنذر كما في الدر المنثور (3/213).
[16767]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/284.
[16768]:تقدم.
[16769]:تقدم.
[16770]:البيت لأبي دؤاد الإيادي ينظر ديوانه 316، ابن الشجري 2/243، ابن يعيش 8/29، المغني 1/137، الهمع 2/26، الجنى الداني 448، 455، ابن الشجري 2/243، شرح الرضي 2/332، الأزهية 94، الدرر 2/20، الخزانة 9/586، الدر المصون 3/335.
[16771]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/284.