اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (68)

الخامس : قال نوح - عليه السلامُ - : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ } .

وقال هود عليه السلام : { وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ } ، فأتى نوح بصيغة الفعل ، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل ، ونوح - عليه السلام - قال : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، وهود لم يقل ذلك ، وإنَّما زاد كونه " أمِيناً " ، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب " دلائِلِ الإعْجازِ " أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً .

وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ ، والاستمرار على ذلك الفعل{[16414]} .

وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم ، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } [ نوح : 5 ] .

فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال : " وأنْصَحُ لَكُمْ " .

وأما قول هود - عليه السلامُ - : { وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً ، ويوماً فيوماً .

وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً ، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام ، فلم يبعد أن يقال : إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة ، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور{[16415]} :

أحدها : الرَّدُ عليهم في قولهم : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } .

وثانيها : أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة ، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة .

وثالثها : كأنَّهُ قال لهم : كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً ، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً ، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب ؟

والأمين هو الثقة ، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد .

واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ ، بل قابلها بالحلم ، ولم يزد على قوله : { لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] .

وقوله : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ ، وإنَّمَأ فعل ذلك ؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ .


[16414]:ينظر: تفسير الرازي 14/127.
[16415]:ينظر: تفسير الرازي 14/17.