اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (73)

ثمود : اسم رجل : وهو ثَمُودُ بْنُ عاد بْن إرم بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ ، وهو أخو جديس ، فثمود وجديس أخوان ، ثم سُمِّيت به هذه القبيلة .

قال أبُو عَمرو بْن العلاء{[16424]} : سميت ثمود لقلَّة مائها ، والثَّمَدُ : الماء القليلُ : [ قال النابغة : [ البسيط ]

أحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ *** إلَى حَمَامٍ شِرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ{[16425]} ]{[16426]}

وكانت مساكنهم " الحجر " بين " الحِجاز " و " الشَّام " إلى " واد القرى " ، والأكثر منعه الصرف اعتباراً بما ذكرناه أوَّلاً ، ومن جعله اسماً للحيّ صرفه ، وهي قراءة الأعمش ، ويحيى بن وثَّابٍ في جميع القرآن ، وقد ورد القرآن بهم صَرِيحاً .

قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُم ألا بُعْداً لِّثَمُودَ } [ هود : 68 ] .

وسيأتي الخلاف من القُرَّاء السَّبْعةِ في سورة " هُودٍ " وغيرها .

وصالح : اسم عربيٌّ ، وهو صالح بن آسف .

وقيل : ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسف بن كَاشِح بْنِ أروم بْنِ ثَمُودَ [ ابن جاثر ] .

" قال : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِن إله غيرُهُ " أمرهم بعبادة الله ، ونهاهم عن عبادة غير الله ، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء .

قوله : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .

قد كثر إيلاءُ هذه اللَّفظة العوامل ، فهي جارية مَجْرَى " الأبْطح " و " الأبْرَقِ " في عدم ذكر موصوفها .

وقوله : " مِن ربِّكُمْ " يحتمل أن يتعلق ب " جَاءَتْكُمْ " و " مِنْ " لابتداء الغايةِ مجازاً ، وأنْ تتعلق بمحذوف ؛ لأنَّها صفةٌ بيِّنة ، ولا بدَّ من حذف مُضاف ، أي : من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته .

وهذا يدلُّ على أنَّ كُلَّ شيءٍ كان يذكر الدلائل على صحَّةِ التَّوْحيدِ ، ولم يكتف بالتَّقْلِيدِ ، وإلاَّ كان ذكر البينة - وهي الحجة - هاهنا لغواً .

قوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أضاف النَّاقة إليه على سبيل التفضيلِ ، كقولك : بيت الله ، وروح الله ؛ لأنَّهَا لم تتوالد بين جمل وناقة ، بل خَرَجَتْ من حَجَرٍ .

و " آيَةً " نصبَ على الحال ؛ لأنَّها بمعنى العلامة ، والعاملُ فيها إمَّا معنى التنبيه ، وإما معنى الإشارةِ ، كأنَّهُ قال : أنبهكم عليها ، وأشير إليها في هذه الحال .

ويجوزُ أن يكون العامل مُضْمَراً تقديرُهُ : انظروا إليها في هذه الحال ، والجملة لا محلَّ لها ؛ لأنَّها كالجواب لسُؤالٍ مقدَّر ، كأنهم قالوا : أين آيتك ؟ فقال : هذه ناقةُ الله .

وقوله : " لَكُم " أي : أعني لكم به ، وخصّوا بذلك ، لأنَّهُم هم السَّائِلُوهَا ، أو المنتفعون بها من بين سَائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا .

ويحتمل أن تكون " هَذِه نَاقَةُ الله " مفسرة لقوله : " بَيِّنَةٌ " ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تستدعي شيئاً يتبين به المدعى ، فتكون الجملة في محل رفع على البدل ، وجاز إبدالُ جملة من مفرد ؛ لأنَّهَا في قوته .

فصل في إعجاز الناقة

اختلفوا في وجه كون النَّاقة آيةً :

فقال بعضهم : " كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة " {[16427]} .

قال القاضي{[16428]} : إن صحَّ هذا فهو معجزٌ من جهاتٍ :

أحدها : خروجها من الجَبَلِ .

والثانية : كونها لا من ذَكَرٍ وأنثى .

والثالثة : كمالُ خَلْقِها من غير تَدْرِيجٍ .

وقيل : إنّما كانت آية ؛ لأجل أنَّ لها شرب يوم ، ولجميع ثمود شرب يوم ، واستيفاء ناقةِ شرب أمَّة من الأمَمِ عجيب .

وقيل : إنَّما كانت آيَة ؛ لأنَّهُم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم .

وقال الحسَنُ بالعكس من ذلك فقال : إنَّها لم تحلب قطرة لبن قط{[16429]} .

وقيل : وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء ، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الوُرُودِ على المَاءِ ، وفي يوم امتناعها تَرِدُ جميع الحيوانات{[16430]} .

واعلم أنَّ القرآن قد دلَّ على أنَّها آية ، ولكن من أي الوُجُوه ؟ فليس في القرآن ذكره .

فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم

فإن قيل : تلك النَّاقَةُ كانت آية لكلِّ أحد ، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله : " لَكُمْ آيَة " .

فالجوابُ : من وجهين :

الأول : أنَّهم عاينوها ، وغيرهم أُخبروا عنها ، ولَيْسَ الخبر كالمُعاينة{[16431]} .

الثاني : لَعلَّه يثبت سائر المعجزات ، إلاَّ أنَّ القَوْمَ التمسوا من صَالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقْتِرَاح ، فأظهرها الله تعالى لهم ، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص .

قوله : " فَذَرُوهَا تَأْكُلْ " أي : العشب في أرض اللَّهِ ، أي : ناقة الله ، [ فذروها تأكل في أرض ربَّها ، فليست الأرض لكم ولا ما فيها منن النبات من إنباتكم .

قوله " في أرض الله " ] {[16432]} الظاهر تعلقه ب " تأكل " .

وقيل : يجوز تعلقه بقوله : " فَذَرُوهَا " ، وعلى هذا فتكون المسألة من التَّنازع وإعمال الثَّاني ، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني فقال : { تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } وانجزم " تأكلْ " جواباً للأمر وقد تقدَّم الخلافة في جازمه : هل هو نفس الجملة الطَّلَبِيَّةِ أو أداء مقدّرة ؟ .

وقرأ أبو جعفر{[16433]} : " تَأكُلُ " برفع الفِعْلِ على أنَّهُ حال ، وهو نظير : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } [ مريم : 5 ، 6 ] رفعاً وجزماً .

قوله : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن " الباء " للتعدية ، أي : لا توقعوا عليها سوءاً ولا تلصقوه بها . ويجوز أن تكون للمصاحبة ، أي : لا تمسُّوها حال مصاحبتكم للسُّوء .

قوله : " فَيَأخُذَكُمْ " نصب على جواب النَّهْي ، أي : لا تجمعوا بين السمّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيَّاكم ، وهم وإنْ لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنَّهم تعاطوا أسبابه .

قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب : " أشْقَى الأوَّلِيْنَ عَاقِرُ نَاقَةِ صالحٍ ، وأشْقَى الآخَرِيْنَ قَاتِلُكََ " {[16434]}


[16424]:ينظر: الفخر الرازي 14/131.
[16425]:ينظر: ديوانه 23، الكتاب 1/168، شرح أبيات سيبويه 1/33، الحيوان 3/221 الدرر 1/217، 2/206، لسان العرب (حكم)، (حمم) أدب الكاتب 25، شرح التصريح 1/225، البحر المحيط 4، 330، الدر المصون 3/202.
[16426]:سقط من أ.
[16427]:ينظر: تفسير الرازي 14/132.
[16428]:ينظر: تفسير الرازي 14/132.
[16429]:ذكره الرازي في تفسيره 14/132.
[16430]:ينظر: تفسير الرازي 14/132.
[16431]:رواه أحمد 1/271، وابن منيع والطبراني والمجمع 1/153 والعسكري وابن حبان وموارد 2087 والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة أن الله قال لموسى إن قومك فعلوا كذا وكذا فلما عاين ألقى الألواح. وفي لفظ أن موسى أخبر أن قومه قد ضلوا من بعده فلم يلق الألواح فلما رأى ما أحدثوا ألقى الألواح، ورواه في الجامع الصغير عن أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس بلفظ ليس الخبر كالمعاينة إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت. وفي التحفة لابن حجر قبيل باب الربا ومن ثم ورد ليس الخبر العيان –بكسر العين، وروى كثيرون منهم أحمد وابن حبان خبر يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر، ورواه البغوي والدارقطني في الأفراد والطبراني في الأوسط عن هشيم وصححه الحاكم وابن حبان وغيرهما، وأورده الضياء في المختارة وابن عدي وأبو يعلى الخليلي في الإرشاد من حديث ثمامة عن أنس. ومن هذا الوجه أورده الضياء في المختارة. وفي لفظ قال العسكري أراد صلى الله عليه وسلم أنه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع بالأمر والاستفظاع له بمثل ما يهجم على قلب المعاين. قال وطعن بعض الملحدين في حديث موسى عليه السلام فقال لم يصدق بما أخبره به ربه، ورد بانه ليس في هذا ما يدل على أنه لم يصدق أو شك فيما أخبره ولكن للعيان روعة للقلب فهو أبعث لهلعه من المسموع. قال ومن هذا قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولكن ليطمئن قلبي لأن للمشاهدة والمعاينة حالا ليست لغيره ولله در من قال: ولكن للعيان لطيف معنى *** له سأل المعاينة الخليل وقد أشار ابن الحاجب في المختصر إلى هذا الحديث، وقال الزركشي ظن أكثر الشراح أنه ليس بحديث، وزاد الحافظ ابن حجر في المجلس الثامن والخمسين بعد المائة من تخريجه وأغفله ابن كثير وتنبه له السبكي. وقال في اللآلىء فإن قيل هو معلول بما قاله ابن عدي في الكامل من أن هشيما لم يسمع هذا الحديث من أبي بشر وإنما سمعه من أبي عوانة عن أبي بشر فدلسه. قلت قال ابن حبان في صحيحه لم ينفرد هشيم، فقد رواه أبو عوانة عن أبي بشر أيضا. وله طرق أخرى ذكرتها في المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر انتهى. وأقول بما تقدم من رواية هذا الحديث عن أنس أيضا يعلم ما في قول القرطبي في التذكرة لم يروه أحد غير ابن عباس فتأمل والله أعلم.
[16432]:سقط من ب.
[16433]:ينظر الكشاف 2/121، 122، والبحر المحيط 4/331، والدر المصون 3/292.
[16434]:أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/1/23).