اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

قيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِر بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَةِ ، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة ، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر .

وقيل : المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها ، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة ، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى .

قوله : " بإِذْنِ رَبِّهِ " يجوزُ أن تكون " الباء " سببية أو حالية وقرئ : " يُخْرِجُ نَبَاتَهُ " ، أي : يخرجه البلد وينبته{[16354]} .

قوله : " والَّذِي خَبُثَ " يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها .

يقال : خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً .

قال الفراء : قوله : " إلاَّ نَكِداً " فيه وجهان :

أحدهما : أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً . نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ ، فهو نِكدٌ بالكسر .

والثاني : أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلاخروجاً نَكداً ، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره ، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي{[16355]} جعفر بن القَعْقَاعِ : " إلاَّ نَكَداً " بفتح الكاف .

قال الزَّجَّاج{[16356]} : وهي قراءة أهْلِ المدينةِ ، وقراءة ابن مصرِّف : " إلا نَكْداً " بالسُّكُونِ وهما مصدران .

وقال مكيٌّ{[16357]} : " هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف " .

يقال : رجل نَكِد ، وأنْكَد ، والمَنْكُود : العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [ في ذلك ] : [ السريع ]

وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّيباً *** لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ{[16358]}

وأنشدوا : [ المنسرح ]

لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ *** أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدا{[16359]}

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة{[16360]} وعيسى بْن عُمَرَ : " يُخْرَج " مبنيّاً للمفعول ، " نَبَاتُه " مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل ، وهو الله تعالى .

وقوله : " والَّذِي خَبُثَ " صفة لموصوف محذوف ، أي : والبلد التي خَبُثَ ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه ، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله : " بإِذْنِ ربِّهِ " ، إذ التقديرُ : والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً . ولا بدَّ من مضاف محذوف : إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ : ونبات الذي خبُث لا يخرج ، وإمَّا من الثَّاني تقديره : والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً ، وغاير بين الموصُوليْنِ ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ ، وفي الثَّاني جاء بالذي ، ووُصِلَتْ بفعل ماض .

قوله : " كَذَلِكَ " تقدم نظيره .

{ نُصَرِّفُ الآيات لقوم يشكرون } .

قرئ : " يُصرِّفُ " أي يصرفها الله ، وختم هذه الآية بقوله : { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } ؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة ، ويجعلها سبباً لنزول المطر ، الذي هو الرَّحمة ، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع ، وعلمه ، وقدرته ، وحكمته ، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمةِ إلى العبادِ ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات ، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصَّها بكونها آيات للشَّاكرين ؛ لأنَّهُم المنتفعون بها ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }{[16361]} [ البقرة : 2 ] .

روى أبُو بُرْدَةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : مثل ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصَابَ أرضاً ، فَكَانَ مِنْهَا بُقْعَة قَبِلتِ الماءَ ، فأنْبَتَت الكَلأ والعُشُبَ الكثيرَ ، وكانَ مِنْهَا أجَادبُ أمسكَتِ المَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ به النَّاس فَشَرِبُوا وسَقَوْا من فقههُ في دين اللَّهِ ، ونَفَعَهُ بما بعثني اللَّهُ به فعلم وعلَّمَ ، ومثل من لم يَرْفَعْ بذلك رَأساً ولمْ يَقْبْلْ هدى الله الذي أرْسِلْتُ بِهِ{[16362]} .


[16354]:ينظر: تفسير الرازي 14/118.
[16355]:ينظر: الكشاف 2/112، والمحرر الوجيز2/414، والبحر المحيط 4/322، والدر المصون 3/286، وإتحاف 2/52.
[16356]:ينظر تفسير معاني القرآن للزجاج 2/382.
[16357]:ينظر: المشكل 1/322.
[16358]:البيت ينظر الرازي 14/145، الشهاب علي البيضاوي 4/177، البحر 3/318، الطبري 12/495، التهذيب واللسان (نكد)، الدر المصون 3/286.
[16359]:ينظر مجاز القرآن 1/217 والطبري 5/519، واللسان (تفه) وحاشية الشهاب 4/177، والبحر 4/317، وزاد المسير 3/220، والدر المصون 3/287، وفتح الباري 8/225، وروح المعاني 8/147.
[16360]:ينظر: الكشاف 2/112، والمحرر الوجيز 2/414 إلا أن ابن عطية ضبطها بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء. وينظر البحر المحيط 4/322، والدر المصون 3/287.
[16361]:ينظر: تفسير الرازي 14/118-119.
[16362]:أخرجه البخاري في الصحيح 1/175 كتاب العلم: باب فضل من علم وعلم ومسلم في الصحيح 4/1787-1788، كتاب الفضائل : باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم الحديث (15/2282).