اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ} (97)

ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } يعني " مكَّة " وما حولها { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : العذاب ، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم ، وهو حال النَّومْ باللَّيْل ، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ .

وقوله : " وَهُمْ يَلْعَبُونَ " يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو ، ويحتملُ في كُفْرِهِم ؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ .

قوله : " أفَأمِنَ " .

قال الزَّمخشريُّ{[16584]} : " فإن قلت : ما المعطوف عليه ، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو ؟ .

قلتُ : المعطوف عليه قوله : " فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً " ، [ وقوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى } إلى : " يَكْسِبُونَ " وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء ؛ لأنَّ المعنى : " فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك ]{[16585]} أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً " .

قال أبُو حيَّان{[16586]} : وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم ، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام " . وقد تقدَّم تحقيقه ، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه ، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ ، وهو قوله : " فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً " .

قوله : " بَيَاتاً " تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ{[16587]} أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً ، وأن يكون ظرفاً .

وقوله : " وهُمْ نَائِمُونَ " جملة حاليّة ، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في " بَيَاتاً " ؛ لأنَّهُ يتحمَّل ضميراً لوقوعه حالاً ، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ .

قوله : " ضُحىً " مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ ، ويكون متصرفاً وغير متصرف ، [ فالمتصرَّفُ ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو : " ضُحاك ضحىً مُبَرَك " .

فإن قلت : " أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً " فهذا لا يتصرّف ، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية ، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال : " ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً ، وغير متصرِّف إذا كان من يوم بعينه " ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [ متى ] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ ، وليس الأمر كذلك قال تعالى : { والضحى } [ الضحى : 1 ] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل ، وقال تعالى : { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة ، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار .

ويقال : ضُحى ، وضحاءُ ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ ، وإذا فتحت مَدَدْتَ .

وقال بعضهم : الضُّحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ .

والضُّحى مُؤنَّثٌ ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على " ضُحَيٌّ " بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها ، والضَّحَاءُ{[16588]} أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما : تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً : وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى ، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً ، ومنه قوله : { وَلاَ تضحى } [ طه : 119 ] [ أي ]{[16589]} : لا تبرزُ للشمس .

ويقال : ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة ، وضَحْيَاء بالمدِّ أي : مضيئة إضاءَةُ الضُّحى ، والأضْحِيَة وجمعها : أضَاحِ ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا ، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام : " مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ " {[16590]}

وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة .

قوله : " وَهُمْ يَلْعَبُونَ " حالٌ ، وهذا يقوِّي أنَّ " بَيَاناً " ظرفٌ لا حال ، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال ، وأتى [ بالحال ] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل ؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل .

قال النَّحَّاسُ : " وفي الصَّحاح{[16591]} : اللَّعِبُ معروفٌ ، واللّعْبُ مثله ، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى ، ورجل تَلْعَابَةٌ : كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر ، وجارته لَعُوبٌ " .

وقرأ نافع وابن عامِر{[16592]} وابنُ كثيرٍ " أوْ " بسكون الواو والباقون بفتحها ، ففي القراءة الأولى تكونُ " أو " بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم .

قال ابنُ الخطيبِ{[16593]} : تسعتملُ على ضَرْبَيْن :

أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله : زيد أو عمرو جاءك ، والمعنى : أحدهما جاء .

والثاني : أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك : " أنَا أخْرُجُ " ثم تقول : " أو أقيم " أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة ، كأنك قلت : لا بل أقيمُ ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل " أو " للإضراب ، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ .

وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير ، وليس بظاهرٍ .

وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً ، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور .

وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك ، ومعنى الاستفهام هنا : التَّوبيخُ ، والتَّقريعُ .

وقال أبُو شَامَة وغيره : " إنَّهُ بمعنى النَّفي " .

وكرّرت الجملة في قوله تعالى : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ } : " أفَأمِنوا " توكيداً لذلك ، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً ، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد .


[16584]:ينظر: الكشاف 2/134.
[16585]:سقط من أ.
[16586]:ينظر: البحر المحيط 4/350.
[16587]:ينظر تفسير الآيتين 4، 40 من هذه السورة.
[16588]:في أ: والضحى.
[16589]:سقط من أ.
[16590]:متفق عليه من رواية جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الصحيح 9/630 كتاب الذبائح والصيد (72) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله تعالى" (الحديث 5500 وأخرجه مسلم في الصحيح 3/1551 كتاب الأضاحي، باب وقتها الحديث 1/1960.
[16591]:ينظر: الصحاح 1/219.
[16592]:ينظر: السبعة 287، والحجة للقراء السبعة 4/52، وإعراب القراءات 1/196، وحجة القراءات 289، والعنوان 96، وشرح شعلة 393، وشرح الطيبة 4/302، وإتحاف 2/55.
[16593]:ينظر: تفسير الرازي 14/151.