اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَقِيقٌ عَلَىٰٓ أَن لَّآ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ قَدۡ جِئۡتُكُم بِبَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَرۡسِلۡ مَعِيَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ} (105)

قوله : " حَقِيقٌ " أي واجب " عَلَى أنْ لا أقُولُ " .

قرأ العامة " على أنْ " ب " عَلَى " التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها .

ونافع قرأ{[16630]} " عليّ " ب " عَلَى " التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم .

فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه :

قال رحمه الله : " وفي المشهورةِ [ إشكال ] ، ولا يخلو من وجوده :

أحدها : أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله : [ الطويل ]

. . . *** وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ{[16631]}

معناه : وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ .

قال أبُو حيَّان{[16632]} : " وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه " .

وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب : الجواز مطلقاً ، [ المنع مطلقاً ]{[16633]} ، التَّفصيل : بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ ، أو لا فيمتنع ، وقد تقدَّم إيضاحه ، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم .

وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى ، إذ الأصلُ : قول الحق حقيق عليَّ ، فقلب اللفظ فصار : " أنَّ حقيق على قول الحقِّ " .

قال : " والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته ، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له " .

والثالث : أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت " هيجّني " معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله : [ البسيط ]

إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي *** وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ{[16634]}

الرابع : أن تكون " عَلَى " بمعنى " الباء " ، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء{[16635]} والفارسيُّ{[16636]} ، قالوا : إنَّ " على " بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى " على " في قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } [ الأعراف : 86 ] أي : على كلٍّ .

وقال الفرَّاءُ : العرب تقول : رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة ، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش " حقيق بأن لا أقول " إلاَّ أنَّ الأخفش قال : " وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت : " ذهبتُ على زيْدٍ " تريد : " بزيدٍ " لم يجز " ، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ .

الخامس : - وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عليه الصلاة والسلام - [ في وصف نفسه ]{[16637]} بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى : إنِّي رسول من رب العالمين قال له : كذبت فيقول : أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي : واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به .

قال أبُو حيَّان{[16638]} : ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون " أن لا أقُول " صفة له كما تقول : أنَا على قول الحقِّ أي : طريقتي وعادتي قول الحقّ .

السادس : أن تكون " على " متعلقة ب " رَسُول " .

قال ابن مقسم : حقيقٌ من نعت " رَسُول " أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ ، وهذا معنى صحيح واضحٌ ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق " على " ب " رسول " ، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب " حقيق " .

قال أبُو حيَّان{[16639]} : وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في " عَلَى " " أرسلت " وقال أخيراً : " لأنهم غفلوا عن تَعْليق " على " ب " رسول " ، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين ؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله ، وذلك لا يَجُوزُ ، وأمَّا تعليقه ب " أرسلت " مقدَّراً لدلالةِ لفظ " رَسُوله " عليه فهو تقديرٌ سائغ .

ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ " على " ب " رسول " أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له .

قال شهابُ الدِّين{[16640]} : " وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم : والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ " .

وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ :

أحدها : أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله : " حقيق " ، و " عليَّ " خبر مقدَّمٌ ، " ألاَّ أقُولَ " مبتدأ مؤخر ، كأنَّهُ قيل : عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي : فلا أقُولُ إلا الحقَّ .

الثاني : أن يكون " حَقِيقٌ " خبراً مقدماً ، و " ألاَّ أقولَ " مبتدأ على ما تقدَّم بيانه .

الثالث : " أن لا أقول " فاعلٌ ب " حقيقٌ " كأنَّهُ قيل : يحقُّ ويجبُ أن لا أقول ، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق " عليَّ " ب " حقيقٌ " لأنَّك تقول : " حقَّ عليهِ كذا " قال تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } [ الأحقاف : 18 ] . وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر .

وأمّا رفع " حقيقٌ " فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً ، ويجوز أن يكون صفةً ل " رَسُول " ، وعلى هذا فيضعف أن يكون " مِنْ رب " صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [ على الصَّريحة ] ، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس " رَسُول " ، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً .

ويجوز أن يكون خبراً ثانياً . ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء ، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها .

فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ ، وهل هو بمعنى فاعل ، أو بمعنى مفعول ؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً ، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره .

وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره : " إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين ، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال : " وحقيق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل " .

قال شمرٌ : " تقولُ العربُ : حقَّ عليَّ أن أفعل كذا " .

وقال الليثُ : " حقَّ الشَّيء معناه وجب ، ويحقُّ عليك أن تفعله ، وحقيق عليَّ أنْ أفعله ، فهذا بمعنى فاعلٍ " ثم قال : وقال اللَّيْثُ : وحقيقٌ بمعنى مفعول ، وعلى هذا تَقُولُ : فلان محقوقٌ عليه أن يفعل .

قال العشى : [ الطويل ]

لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ *** وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ{[16641]}

وقال جريرٌ : [ البسيط ]

. . . *** قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ{[16642]}

ثم قال : " وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق " انتهى .

[ وقرأ أبَيٌّ{[16643]} " بأن لا أقُولَ " وهذه تقوي أنَّ " على " بمعنى الباء ]{[16644]} .

وقرأ عبدُ الله والأعمشُ{[16645]} " لاّ أقُولَ " دون حرف جرّ ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ " على " كما هو قراءة العامَّةِ ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة .

والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ ، والحقيق مبالغة فيه .

قوله : " إلاَّ الحَقَّ " هذا استثناء مفرَّغٌ ، و " الحقُّ " يجوزُ أن يكون مفعولاً به ، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة ، وأن يكون منصوباً على المصدر أي : القول الحق .

قوله : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يعني العَصَا واليد { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة .


[16630]:ينظر : الحجة 4/56، والسبعة 287، وحجة القراءات 289، وإعراب القراءات 1/196، والعنوان 96، وشرح شعلة 393، وشرح الطيبة 4/303، وإتحاف 2/55.
[16631]:البيت لخداش بن زهير ينظر: الأضداد 153، لسان العرب (ضطر)، أمالي المرتضى 1/466، سر صناعة افعراب 1/323، والصاحبي في فقه اللغة ص 203، الدر المصون 3/314.
[16632]:ينظر: البحر المحيط 4/356.
[16633]:سقط من أ.
[16634]:البيت للنابغة الذبياني ينظر: ديوانه ص 203، الكتاب 1/286، الخصائص 2/424، لسان العرب (هيج) الدر المصون 3/314. جمهرة أشعار العرب 52-56.
[16635]:ينظر: معاني القرآن له 1/386.
[16636]:ينظر: الحجة 4/57.
[16637]:سقط من أ.
[16638]:ينظر: البحر المحيط 4/356.
[16639]:ينظر: البحر المحيط 4/357.
[16640]:ينظر: الدر المصون 3/315.
[16641]:البيت للأعشى ينظر: ديوانه ص 273، تخليص الشواهد ص 188: الصاحبي في فقه اللغة 216، خزانة الأدب 3/252، 5/291، 293 كتاب الصناعتين ص 143، لسان العرب (حقق)، الإنصاف 1/58 الدر المصون 3/315.
[16642]:عجز بيت وصدره: قل للأخيطل إذ جد الجراء بنا ينظر: ديوانه 312، التهذيب (حق) الدر المصون 3/315.
[16643]:ونسبها ابن عطية إلى عبد الله بن مسعود. ينظر: المحرر الوجيز 2/435، والبحر المحيط 4/357، والدر المصون 3/315.
[16644]:سقط من أ.
[16645]:ينظر: المحرر الوجيز 2/435، البحر المحيط 4/357، الدر المصون 3/315، والتخريجات النحوية 193، 366.