اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا} (11)

قوله : { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } . أي : يرسل ماء السماءِ ، ففيه إضمار .

وقيل : السماء : المطر ، أي يرسلُ المطر ؛ قال الشاعر : [ الوافر ] .

4878 - إذَا نَزََل السَّماءُ بأرْضِ قَوْمٍ***رَعيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا{[57992]}

و «مِدْراراً » يجوز أن يكون حالاً من «السَّماء » . ولم يؤنث ؛ لأن «مفعالاً » لا يؤنث ، تقول : «امرأة مِئْنَاث ، ومِذْكَار » ولا يؤنث بالتاء إلا نادراً ، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فتقول رجُلٌ مخدامةٌ ، ومطرابةٌ ، وامرأة مخدامة ومطرابة ، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إرسالاً مدراراً . وتقدم الكلام عليه في الأنعام{[57993]} .

وجزم «يرسل » جواباً للأمر ، و «مِدْرَاراً » ذا غيث كثيرٍ .

فصل في حكاية قوم نوح

قال مقاتل : لما كذَّبوا نوحاً - عليه الصلاة والسلام - زماناً طويلاً حبس اللَّهُ عنهم المطر ، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنة ، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - واستغاثوا به ، فقال : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ، أي : لمن أناب إليه ، ثم رغبهم في الإيمان فقال : { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً }{[57994]} .

قال قتادة : علم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أنهم أهل حرصٍ على الدنيا ، فقال : هلموا إلى طاعة الله ، فإنَّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة{[57995]} .

فصل في استنزال الرزق بالاستغفار .

في هذه الآية والتي قبلها في «هود » دليلٌ على أنَّ الاستغفار يستنزلُ به الرزق والأمطار قال الشعبيُّ : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماءِ التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا } .

قال ابن الأثير : المجاديحُ واحدها «مجدح » والياء زائدة للإشباع ، والقياس أن يكون واحدها مجداح ، فأما مجدح فجمعه «مجادح » ، والمجدح : نجمٌ من النجوم .

قيل : هو الدبران .

وقيل : هو ثلاثةُ كواكب ، كالأثافي تشبيهاً له بالمجدح ، الذي له ثلاث شعبٍ ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبهاً بالأنواء ، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولاً بالأنواء ، وجاء بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر .

وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفر الله ، وشكى آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وقال له آخر : ادعُ الله أن يرزقني ولداً ، فقال له : استغفر الله ، وشكى إليه آخرُ جفاف بساتينه فقال له : استغفر الله ، فقلنا له في ذلك ، فقال ما قلت من عندي شيئاً ، إنَّ الله تعالى يقول في سورة «نوح » : { استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } .

فإن قيل : إنَّ نوحاً - عليه الصلاة والسلام - أمر الكفار أولاً بالعبادة ، والطَّاعة ، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار .

فالجوابُ{[57996]} : لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً ، فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلاً ، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه ، فقال نوح - عليه الصلاة والسلام - : إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً .

فإن قيل : فلم قيل : إنه كان غفاراً ، ولم يقل : إنَّه غفار ؟ .

فالجوابُ : كأنه يقول : لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر .


[57992]:تقدم.
[57993]:آية رقم 6.
[57994]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/195).
[57995]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/249) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/424) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[57996]:ينظر: الفخر الرازي 30/122.