اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (99)

قوله تعالى : { وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } الآية .

لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً ، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر . قال مجاهدٌ : هم بنو مقرن من مزينة{[18064]} . وقال الكلبيُّ هم أسلم ، وغفار ، وجهينة{[18065]} . وروى أبو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " لأسْلمُ وغفارٌ ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ " {[18066]} .

قوله : { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ } ف " قُرُباتٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " يتَّخذَ " كما مرَّ في { مَغْرَماً } [ التوبة : 98 ] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من " قُربَات " ، مع اختلافهم في راء " قُرْبة " كما سيأتي ، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل " قُرْبة " بالضَّم ، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ ، ويحتملُ أن تكون جمعاً لساكنها ، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً ، ك " غُرُفَات " ، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة ، وشروطها عند قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أول البقرة .

قال الزجاجُ : يجوزُ في " القُرُبَات " أوجه ثلاثة ، ضم الراء ، وإسكانها ، وفتحها .

والمعنى : أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ .

قوله : " عِندَ الله " في هذا الظرف ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنَّه متعلقٌ ب " يتَّخذ " والثاني : أنَّهُ ظرف ل " قُرُبات " ، قاله أبو البقاءِ . وليس بذلك .

الثالث : أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ ، لأنَّه صفةٌ ل " قربات " . قوله : { وَصَلَوَاتِ الرسول } فيها وجهان :

أظهرهما : أنَّها نسق على " قُربات " ، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري ، فإنَّه قال : " والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول ، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ ، كقوله : " اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى " والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره - : أنها منسوقةٌ على " ما يُنفقُ " ، أي : ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة .

قوله : { ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ } الضمير في " إنَّها " قيل : عائدٌ على " صَلواتِ " .

وقيل : على النَّفقات أي : المفهومة من " يُنفِقُون " . وقرأ{[18067]} ورشٌ " قُرُبَة " بضمِّ القاف والرَّاء ، والباقون بسكونها ، فقيل : لغتان . وقيل : الأصلُ السكون ، والضَّم إتباع . وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف ، هل يجوزُ تثقيل " فُعْل " إلى " فُعُل " ؟ وأنَّ بعضهم جعل " يُسُرا ، عُسُرا " بضمِّ السين فرعين على سكونها ، وقيل : الأصلُ " قُرُبة " بالضَّمِّ ، والسكون تخفيف ، نحو : كتب ورسل ، وهذا أجْرَى على لغة العرب ، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة . وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه . قال معناه الزمخشريُّ ، قال : وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ . ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ } لسيِّآتهم " رَّحِيمٌ " بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات .


[18064]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/452) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/482) وزاد نسبته إلى سنيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18065]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/321).
[18066]:أخرجه مسلم (4/1955) كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل غفار وأسلم وجهينة-حديث (191/2521) من حديث أبي هريرة.
[18067]:ينظر: السبعة ص (317)، الحجة 4/209-212، حجة القراءات ص (322)، إعراب القراءات 1/254-255، إتحاف 2/97.