مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّـٰهِدِينَ} (20)

ثم قال تعالى : { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } أما قوله : { وشروه } ففيه قولان :

القول الأول : المراد من الشراء هو البيع ، وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان :

القول الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، والمراد من قوله : { وشروه } أي باعوه يقال : شريت الشيء إذا بعته ، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع ، لأن الضمير في قوله : { وشروه } وفي قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } عائد إلى الإخوة فكذا في قوله : { وشروه } يجب أن يكون عائدا إلى الإخوة ، وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع .

والقول الثاني : أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر ، وقال محمد بن إسحق : ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة ، وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال : المراد من الشراء نفس الشراء ، والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين ، لأنهم علموا بقرائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضا أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفا من الله تعالى ، ومن ظهور تلك الواقعة ، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل . مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين ، وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن ، ويحتمل أيضا أن يقال إن الأخوة لما قالوا : إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه . قال مجاهد : وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق .

ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث .

الصفة الأولى : كونه بخسا . قال ابن عباس : يريد حراما لأن ثمن الحر حرام . وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام ، قال الواحدي سموا الحرام بخسا لأنه ناقص البركة ، وقال قتادة : بخس ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه ، وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل : ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا ، وقيل كانت الدراهم زيوفا ناقصة العيار . قال الواحدي رحمه الله تعالى : وعلى الأقوال كلها ، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم ، والمعنى بثمن مبخوس .

الصفة الثانية : قوله : { دراهم معدودة } قيل تعد عدا ولا توزن ، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية ، وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود ، لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها ، وعن ابن عباس كانت عشرين درهما ، وعن السدي اثنين وعشرين درهما . قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئا .

الصفة الثالثة : قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة . يقال : رجل زهيد إذا كان قليل الطمع ، وفيه وجوه : أحدها : أن إخوة يوسف باعوه ، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين . والثاني : أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين ، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم ، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان . والثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين ، وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم ، والضمير في قوله : { فيه } يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام ، ويحتمل أن يكون عائدا إلى الثمن البخس والله أعلم .