مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَعَلَى ٱللَّهِ قَصۡدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (9)

قوله تعالى { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين }

اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال : { وعلى الله قصد السبيل } أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة . ويحيى من حي عن بينة وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قالت الواحدي : القصد استقامة الطريق يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك ، إذا عرفت هذا ففي الآية حذف ، والتقدير : وعلى الله بيان قصد السبيل ، ثم قال : { ومنها جائر } أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله : { ومنها جائر } تعود على السبيل ، وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال ، والله أعلم .

المسألة الثانية ؛ قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار ، لأنه تعالى قال : { وعلى الله قصد السبيل } وكلمة «على » للوجوب قال تعالى : { ولله على الناس حج البيت } ودلت الآية أيضا على أنه تعالى لا يضل أحدا ولا يغويه ولا يصده عنه ، وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلا للضلال لقال : { وعلى الله قصد السبيل } وعليه جائرها قال : وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال { ومنها جائر } دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحدا .

أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله : { ولو شاء لهداكم أجمعين } يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان ، لأن كلمة ( لو ) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله ؛ { ولو شاء لهداكم } معناه : لو شاء هدايتكم لهداكم ، وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم ، وذلك يدل على المقصود .

وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل .

وأجاب الجبائي بأن المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ، لأنه مقدور جميع المكلفين .

وأجاب بعضهم فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل ، إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين ، فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب ، والله أعلم .

واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مرارا وأطوارا مع الجواب فلا فائدة في الإعادة .