قوله تعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون }
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظام الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل ، فكذلك أيضا كانت شرحا وتفصيلا لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة ، والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم ، وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لا سيما إذا كان ذلك الموجود جمادا لا يفهم ولا يقدر ، فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } والمعنى : أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر البتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر . ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنسانا عاقلا فاهما ينعم بالنعمة العظيمة ، ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة ، وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها ، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها .
المسألة الثانية : المراد بقوله : { من لا يخلق } الأصنام ، وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة «من » لأنها لأولي العلم . وأجيب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها ، لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } .
والوجه الثاني : في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق .
والوجه الثالث : أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله : { ألهم أرجل يمشون بها } يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها ، وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا .
فإن قيل : قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } المقصود منه إلزام عبدة الأوثان ، حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله ، وفي الاشتغال بعبادتها ، فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق ؟
والجواب : المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله ، وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } ؟
المسألة الثالثة : احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال : إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } الغرض منه بيان كونه ممتازا عن الأنداد بصفة الخالقية ، وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقا ، فهذا يقتضي أن العبد لو كان خالقا لبعض الأشياء لوجب كونه إلها معبودا ، ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد ، قالت المعتزلة الجواب : عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلا ، فهذا يقتضي أن من كان خالقا لهذه الأشياء فإنه يكون إلها ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلها .
والوجه الثاني : أن معنى الآية : أن من كان خالقا كان أفضل ممن لا يكون خالقا ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها . والدليل عليه قوله تعالى : { ألهم أرجل يمشون بها } ومعناه : أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها ، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم ، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس ، فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلها ، فكذلك ههنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أن بمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلها .
والوجه الثالث في الجواب : أن كثيرا من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبي في «تفسيره » إنا لا نقول : إنا نخلق أفعالنا : قال : ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ، إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } وقوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } .
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد ، حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز ، لأن الخالق عبارة عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظن والحسبان ، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال .
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.