السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (17)

{ أفمن يخلق } أي : هذه الأشياء الموجودة وغيرها { كمن لا يخلق } شيئاً من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى . فإن قيل : ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق ؟ أجيب : بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } . فإن قيل : من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحاً لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضاً بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم ؟ أجيب : بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } [ النحل ، 20 ] وإلى قول الشاعر :

بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي *** فقلت ومثلي بالبكاء جدير

أسرب القطا هل من يعير جناحه *** لعلي إلى من قد هويت أطير

وكل قطاة لا تعير جناحها *** تعيش بذل والجناح قصير

فأوقع من على سرب لما عامله معاملة العقلاء ، وقيل : للمشاكلة بينه وبين من يخلق ، وقيل : المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده كقوله تعالى : { ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف ، 195 ] يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب ، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف تصح لهم العبادة إلا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا . ولما كان هذا القدر ظاهراً غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى تدقيق الفكر والنظر بل مجرّد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل . ختم تعالى ذلك بقوله تعالى : { أفلا تذكرون } بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه فتؤمنون . تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه لأنه تعالى ميز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية لأنّ الغرض من قوله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } بيان تميزه عن هذه الأشياء بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والعبودية لكونه تعالى خالقاً وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقاً لشيء لوجب كونه إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد .