الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (17)

قوله تعالى : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إنْ أُريد ب " مَنْ لا يَخْلُق " جميعٌ ما عُبِد مِنْ دونِ الله كان ورودُ " مَنْ " واضحاً ؛ لأن العاقلَ يُغَلَّبُ على غيرِه ، فيُعبَّر عن الجميع ب " مَنْ " ولو جِيْء ب " ما " أيضاً لجازَ ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ " مَنْ " عليهم أوجهٌ ، أحدُها : إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله :

بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي *** فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ

أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه *** لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ

فأوقعَ على السِّرْب " مَنْ " لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ . الثاني : المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق . الثالث : تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم ، والمعنى : أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ يَخْلُقُ وبين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم ، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة ، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً ، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ }

[ الأعراف : 195 ] إلى آخره ؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ " مَنْ " على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ .

قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها ، تشبيهاً بالله تعالى ، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق ، فكان حَقُّ الإِلزامِ أن يُقال لهم : أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق ؟ قلت : حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه ، والعبادةِ له ، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقولِه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .