قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ]{[19759]} على وجود إله قادرٍ حكيم ، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره ، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم ، ولا يعقل ؟ .
فلهذا قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه الأشياء التي ذكرناها { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة ؛ { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر ، ونظر ؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم ، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، ليس لها فهمٌ ، ولا قدرة ولا إحساس ، فكيف تعبدونها ؟ .
قوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إن أريد ب { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } جميع ما عبد من دون الله ، كان ورود " مَنْ " واضحاً ؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره ، فيعبر عن الجميع ب " مَنْ " ولو جيء أيضاً ب " ما " لجاز ، وإن أريد به الأصنام ، ففي إيقاع " مَنْ " عليهم أوجهٌ :
أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها ، واعتقادِ أنَّها تضرُّ ، وتنفع كقول الشاعر : [ الطويل ]
3308- بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي*** فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ ؟ *** لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ{[19760]}
فأوقع " مَنْ " على السرب ، لمَّا عاملها معاملة العقلاء .
الثاني : المشاكلة بينه وبين " مَنْ يَخْلقُ " .
[ الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين " مَنْ لا يخلقُ " من أولي العلم ، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة ، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم ؛ كقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره ؛ وأمَّا من يجيز إيقاع " مَنْ " على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل .
قال الزمخشري{[19761]} - رحمه الله- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها ؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق .
قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات ، وتشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .
احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه ؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية ، والمعبوديَّة ؛ لكونه خالقاً ، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد .
الأول : المراد من قوله تعالى { أَفَمَن يَخْلُقُ } ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ ؛ فإنه يكون إلهاً ، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً .
الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة ، والمعبوديَّة ، وهذا القدر لا يدلُّ على أنَّ كلَّ من كان خالقاً ؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً ؛ لقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] .
ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها ، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم ، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ .
فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً .
الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا ، ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى ؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ؛ وفي قوله عز وجل : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة ؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد ، وعلى الله مجاز ؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظنِّ ، والحسبان ، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ ، وفي حق الله تعالى محالٌ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.