اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (17)

قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [ القاهرة ]{[19759]} على وجود إله قادرٍ حكيم ، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم ، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره ، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم ، ولا يعقل ؟ .

فلهذا قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه الأشياء التي ذكرناها { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة ؛ { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر ، ونظر ؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم ، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح ، فهذه الأصنام جمادات محضة ، ليس لها فهمٌ ، ولا قدرة ولا إحساس ، فكيف تعبدونها ؟ .

قوله { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إن أريد ب { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } جميع ما عبد من دون الله ، كان ورود " مَنْ " واضحاً ؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره ، فيعبر عن الجميع ب " مَنْ " ولو جيء أيضاً ب " ما " لجاز ، وإن أريد به الأصنام ، ففي إيقاع " مَنْ " عليهم أوجهٌ :

أحدها : إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها ، واعتقادِ أنَّها تضرُّ ، وتنفع كقول الشاعر : [ الطويل ]

3308- بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي*** فقُلْتُ : ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ

أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ ؟ *** لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ{[19760]}

فأوقع " مَنْ " على السرب ، لمَّا عاملها معاملة العقلاء .

الثاني : المشاكلة بينه وبين " مَنْ يَخْلقُ " .

[ الثالث : تخصيصه بمن يعلم ، والمعنى : أنه إذا حصل التباين بين من يخلق ] وبين " مَنْ لا يخلقُ " من أولي العلم ، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة ، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة ، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم ؛ كقوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره ؛ وأمَّا من يجيز إيقاع " مَنْ " على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل .

قال الزمخشري{[19761]} - رحمه الله- : فإن قلت : هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان ، ونحوها ؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم : أفمن لا يخلق كمن يخلق .

قلت : حين جعلوا غير الله مثل الله عز وجل ، بتسميتهم والعبادة له ، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات ، وتشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .

فصل في الاحتجاج بالآية

احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه ؛ لأنَّه سبحانه - عز وجل - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية ؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية ، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية ، والمعبوديَّة ؛ لكونه خالقاً ، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً ، ولما كان ذلك باطلاً ، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق ، والإيجاد .

أجاب المعتزلة من وجوه :

الأول : المراد من قوله تعالى { أَفَمَن يَخْلُقُ } ما تقدم ذكره من السماوات والأرض ، والإنسان ، والحيوان ، والنبات ، والبحار ، والنجوم ، والجبال ، كمن لا يقدر على خلق شيءٍ أصلاً ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ ؛ فإنه يكون إلهاً ، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً .

الثاني : أنَّ معنى الآية : أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً ، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة ، والمعبوديَّة ، وهذا القدر لا يدلُّ على أنَّ كلَّ من كان خالقاً ؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً ؛ لقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] .

ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها ، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم ، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ .

فهذا هو المقصود من هذه الآية ، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً ، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية : أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق ، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية ، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً .

الثالث : أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد . قال الكعبيُّ في تفسيره : إنا لا نقول : إنا لا نخلق أفعالنا ، ومن أطلق ذلك فقد أخطأ ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى ؛ كقوله تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } [ المائدة : 110 ] ؛ وفي قوله عز وجل : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة ؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال : إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد ، وعلى الله مجاز ؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير ، وذلك عبارة عن الظنِّ ، والحسبان ، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ ، وفي حق الله تعالى محالٌ .


[19759]:في أ: القاطعة.
[19760]:البيتان للمجنون. ينظر: ديوانه ص 106، ونسب للعباس بن الأحنف في ديوانه ص 168، تخليص الشواهد ص 6141 الدرر 1/30، شرح التصريح 1/133، المقاصد النحوية 1/431، أوضح المسالك 1/147، شرح الأشموني 1/69، شرح ابن عقيل ص 80، 81، العيني 1/431، الهمع 1/91، الدر المصون 4/319.
[19761]:ينظر: الكشاف 2/599.