مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلٗا} (2)

قوله تعالى { وآتنا موسى الكتاب وجعلناه هدى وبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية ، وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، لأن قوله : { سبحان الذي أسرى } فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله : { باركنا حوله لنريه من آياتنا } فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله : { إنه هو السميع البصير } يدل على الغيبة وقوله : { وآتينا موسى الكتاب } الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات .

المسألة الثانية : ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن أسرى به ، وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال : { وآتينا موسى الكتاب } يعني التوراة : { وجعلناه هدى } أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوله : { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } وفيه أبحاث :

البحث الأول : قرأ أبو عمرو : { ألا يتخذوا } بالياء خبرا عن بني إسرائيل ، والباقون بالتاء على الخطاب ، أي قلنا لهم لا تتخذوا .

البحث الثاني : قال أبو علي الفارسي : إن قوله : { ألا تتخذوا } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون ( أن ) ناصبة للفعل فيكون المعنى : وجعلناه هدى لئلا تتخذوا . وثانيها : أن تكون ( أن ) بمعنى أي التي للتفسير ، وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب . والأمر في قوله : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا } فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله : { ألا تتخذوا } وثالثها : أن تكون ( أن ) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير : وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلا .

البحث الثالث : قوله : { وكيلا } أي ربا تكلون أموركم إليه . أقول حاصل الكلام في الآية : أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء ، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه ، ثم وصف التوراة بكونها هدى ، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلا ، وذلك هو التوحيد ، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غارقا في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله ، فإن نطق ، نطق بذكر الله ، وإن تفكر ، تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى ، وإن طلب ، طلب من الله ، فيكون كله لله وبالله .