مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

" بني إسرائيل "

عن ابن عباس أنها مكية ، غير قوله : { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } إلى قوله : { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } فإنها مدنيات ، نزلت حين جاء وفد ثقيف .

{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال النحويون : { سبحان } اسم علم للتسبيح . يقال : سبحت الله تسبيحا وسبحانا ، فالتسبيح هو المصدر ، وسبحان : اسم علم للتسبيح كقولك : كفرت اليمين تكفيرا وكفرانا وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء . قال صاحب «النظم » : السبح في اللغة : التباعد ، يدل عليه قوله تعالى : { إن لك في النهار سبحا } أي تباعدا فمعنى : سبح الله تعالى ، أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد ، وقد جاء في لفظ التسبيح معان أخرى : أحدها : أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة ، ومنه قوله تعالى : { فلولا أنه كان من المسبحين } أي من المصلين ، والسبحة : الصلاة النافلة ، وإنما قيل للمصلي مسبح ، لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي . وثانيها : ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى : { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون } أي تستثنون وتأويله أيضا يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته . وثالثها : جاء في الحديث : " لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء " قيل معناه نور وجهه ، وقيل : سبحات وجهه ، نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال : سبحان الله ، وقوله : { أسرى } قال أهل اللغة : أسرى وسرى لغتان : وقوله : { بعبده } أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام ، وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال : سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال : لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعراج أوحى الله تعالى إليه : يا محمد بم أشرفك ؟ قال : { يا رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية } فأنزل الله فيه : { سبحان الذي أسرى بعبده } وقوله : { ليلا } نصب على الظرف .

فإن قيل : الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل ؟

قلنا : أراد بقوله : { ليلا } بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء . وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل : كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ، ونقل صاحب «الكشاف » عن أنس والحسين أنه كان ذلك قبل البعثة . وقوله : { من المسجد الحرام } اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه . وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

" بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " وقيل أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب . والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام : الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به ، وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد ، وهذا قول الأكثرين وقوله : { إلى المسجد الأقصى } اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس . وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله : { الذي باركنا حوله } قيل بالثمار والأزهار ، وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة .

واعلم أن كلمة { إلى } لانتهاء الغاية فمدلول قوله : { إلى المسجد الأقصى } أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه ، وقوله : { لنريه من آياتنا } يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى .

فإن قالوا : قوله : { لنريه من آياتنا } يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات ، لأن كلمة { من } تفيد التبعيض ، وقال في حق إبراهيم : { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض } فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم .

قلنا : الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، والذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعض آيات الله تعالى ، ولا شك أن آيات الله أفضل .

ثم قال : { إنه هو السميع العليم } أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد ، البصير بأفعاله ، العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء ، مقرونة بالصدق والصفاء ، فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات ، وقيل : المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر ، بصير بما يعملون في هذه الواقعة .

المسألة الثانية : اختلف في كيفية ذلك الإسراء ، فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأقلون قالوا : إنه ما أسري إلا بروحه ، حكي عن محمد بن جرير الطبري في «تفسيره » عن حذيفة أنه قال : ذلك رؤيا . وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أسري بروحه ، وحكي هذا القول أيضا عن عائشة رضي الله عنها ، وعن معاوية رضي الله عنه . واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين : أحدهما : في إثبات الجواز العقلي . والثاني : في الوقوع .

أما المقام الأول : وهو إثبات الجواز العقلي ، فنقول : الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها . والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع ، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه :

الوجه الأول : أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع ، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع . وبتقدير أن يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر ، فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان ، فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان ، والله أعلم .

الوجه الثاني : وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة . ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه .

الوجه الثالث : أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد ، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة من العرش إلى مكة ، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا .

فإن قالوا : نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام .

قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم . وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة ، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل ، وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فهو صادق ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، فكلما ذكر شيئا قال أبو بكر صدقت ، فلما تمم الكلام قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله حقا ، فقال له الرسول : وأنا أشهد أنك الصديق حقا ، وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا ؟

الوجه الرابع : أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى ، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني ، فهذا الإلزام غير وارد عليهم ، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل .

فإن قالوا : هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة ، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه ؟

قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر ، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني ، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى

الوجه الخامس : أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفة مسير سليمان عليه الصلاة والسلام : { غدوها شهر ورواحها شهر } بل نقول : الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة ، وذلك أيضا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة .

الوجه السادس : أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } وإذا كان ممكنا في حق بعض الناس ، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود .

الوجه السابع : إن من الناس من يقول : الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة ، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه .

المقدمة الثانية : في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنعا ، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها ، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه .

وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات ، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن ، فوجب كونه تعالى قادرا عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه ، أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب ، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات ، فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب ، وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم ، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب ، وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات ، وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا ، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع ، والله أعلم .

المقام الثاني : في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق : الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد صلى الله عليه وسلم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر ، أما القرآن فهو هذه الآية ، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح ، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح .

واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح ، أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده ، فقد احتجوا عليه بوجوه : أحدها : أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر ، والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال ، والباقي غير متبدل ، فالإنسان مغاير لهذا البدن . وثانيها : أن الإنسان قد يكون عارفا بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلا عن جميع أجزائه البدنية ، والمعلوم مغاير للمغفول عنه ، فالإنسان مغاير لهذا البدن . وثالثها : أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي ، وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة . والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء .

فإن قالوا : أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه ، فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته ، وهذا محال .

قلنا : نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه ، بل إنما نتمسك بمحض العقل ، فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد ، وذلك الشيء الواحد يأخذ بآلة اليد ويبصر بآلة العين ، ويسمع بآلة الأذن ، فالإنسان شيء واحد ، وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال ، وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات ، فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد .

إذا ثبت هذا فنقول : { سبحان الذي أسرى بعبده } المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقدير فلم يبق في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد .

فإن قالوا : فالإسراء بالروح ليس بأمر مخالف للعادة ، فلا يليق به أن يقال : { سبحان الذي أسرى بعبده } .

قلنا : هذا أيضا بعيد ، لأنه لا يبعد أن يقال : إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره البتة ، فلا جرم كان هذا الكلام لائقا به ، فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معا .

والجواب : أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد ، والدليل عليه قوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى } ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد . وقال أيضا في سورة الجن : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا ، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ، ثم منه إلى السموات ، واحتج المنكرون له بوجوه : أحدها : بالوجوه العقلية وهي ثلاثة : أولها : أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة . وثانيها : أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول . وثالثها : أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك ، وذلك محال .

والشبهة الثانية : أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات . وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة ، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد ، فإنه يكون ذلك عبثا ، وذلك لا يليق بالحكيم .

والشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج ، وإنما كان فتنة للناس ؟ لأن كثيرا ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر به فكان حديث المعراج سببا لفتنة الناس ، فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام .

الشبهة الرابعة : أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة ، منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد ، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة ، ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد ، لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك ، فأي حاجة إلى البراق ، ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام . قال القاضي : وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره ، وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال ، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما لا يجوز قبوله فكان مردودا .

والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها .

والجواب عن الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى وهو قوله : { لنريه من آياتنا } وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه : الأول : أن خيرات الجنة عظيمة ، وأهوال النار شديدة ، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا ، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار ، أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما ، وحينئذ يتفرغ للشفاعة . الثاني : لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة ، صارت سببا لتكامل مصلحته أو مصلحتهم . الثالث : أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش ، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه ، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل . وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى ، يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب ، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين .

واعلم أن قوله : { لنريه من آياتنا } كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصة به وعائدة إليه على سبيل التعيين .

والجواب عن الشبهة الثالثة : أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام .

والجواب عن الشبهة الرابعة : لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدل عليه ، ومنهم من استدل عليه بأول سورة " والنجم " ، ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى : { لتركبن طبقا عن طبق } وتفسيرهما مذكور في موضعه ، وأما دلالة الحديث فكما سلف ، والله أعلم .