مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا} (3)

ثم قال : { ذرية من حملنا مع نوح } وفي نصب { ذرية } وجهان :

الوجه الأول : أن يكون نصبا على النداء يعني : يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال : هذا نداء قال الواحدي : وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم : لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث . فالناس كلهم من ذرية أولئك ، فكان قوله : يا ذرية من حملنا مع نوح ، قائما مقام قوله : { أيها الناس } .

الوجه الثاني : في نصب قوله : { ذرية } أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } والتقدير : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا ، ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال : { إنه كان عبدا شكورا } أي كان كثير الشكر ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال : « الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني » وإذا شرب قال : «الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني » وإذا اكتسى قال : « الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني » وإذا احتذى قال : « الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني » وإذا قضى حاجته قال : « الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه » وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به .

فإن قيل : قوله : { إنه كان عبدا شكورا } ما وجه ملائمة لما قبله ؟

قلنا : التقدير كأنه قال : لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي ، لأن نوحا عليه الصلاة والسلام كان عبدا شكورا ، وإنما يكون العبد شكورا لو كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله . وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام ، كما أن آباءكم اقتدوا به ، والله أعلم .