مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةٗ فَظَلَمُواْ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا} (59)

قوله تعالى { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وإذ قلنا لك إن ربك أحاط وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } .

اعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة ، وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : { لولا يأتينا بآية كما أرسل الأولون } وقال آخرون : المراد ما طلبوه بقولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا : إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم : من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات . فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } وفي تفسير هذا الجواب وجوه :

الوجه الأول : المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم . فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز ، لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم ، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة . روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي ، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى : إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا أريد ذلك بل تتأنى بهم » فنزلت هذه الآية .

الوجه الثاني : في تفسير هذا الجواب : أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم ، فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضا .

الوجه الثالث : أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها ، فعلم الله منكم أيضا أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثا ، والعبث لا يفعله الحكيم .

ثم قال تعالى : { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } وفيه أبحاث :

البحث الأول : المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود ، وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال ، فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى .

البحث الثاني : قوله تعالى : { مبصرة } وفيه وجهان : الأول : قال الفراء : { مبصرة } أي مضيئة . قال تعالى : { والنهار مبصرا } أي مضيئا . الثاني : { مبصرة } أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول .

البحث الثالث : قوله : { فظلموا بها } أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها ، وقال ابن قتيبة : { ظلموا بها } أي جحدوا بأنها من الله تعالى .

ثم قال تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } قيل : لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة .

فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف ؟

قلنا : المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة ، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة ، فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد ، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات ، فالمراد من قوله : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } هذا الذي ذكرناه ، والله أعلم .

واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعجزات القاهرة ، وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له : لو كنت رسولا حقا من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك ، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء ، فعند هذا قوى الله قلبه .