مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا} (62)

والنوع الثاني من كلامه : قوله : { أرأيتك هذا الذي كرمت علي } قال الزجاج : قوله : { أرأيتك } معناه أخبرني ، وقد استقصينا في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام . وقوله : { هذا الذي كرمت علي } فيه وجوه . الأول : معناه : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ؟ ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما . الثاني : يمكن أن يقال هذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام ، والذي مع صلته خبر ، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي ! وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار ، وإنما حذف حرف الاستفهام لأن حصوله في قوله { أرأيتك } أغنى عن تكراره . والوجه الثالث : أن يكون { هذا } مفعول { أرأيت } لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها ، كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي ، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي ، هذا هو حقيقة هذه الكلمة ، ثم قال تعالى حكاية ( عنه ) { لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا } وفيه مباحث :

البحث الأول : قرأ ابن كثير { لئن أخرتني إلى يوم القيامة } بإثبات الياء في الوصل والوقف ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف ونافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف .

البحث الثاني : في الاحتناك قولان ، أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكلية ، يقال : احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية ، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية . والثاني : أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به ، وقال أبو مسلم : الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه . فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء . وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها .

البحث الثالث : قوله : { إلا قليلا } هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ الإسراء : 65 ] فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم ؟ قلنا فيه وجوه . الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] فعرف هذه الأحوال . الثاني : أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم . الثالث : أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية ، وقوة سبعية غضبية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة ، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ، ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما ، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب ، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه أمض لشأنك الذي اخترته ، والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه .