مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا} (61)

قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } فيه مسائل :

المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه . الأول : اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه ، بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك . ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم ، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس . الثاني : أن القوم إنما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد ، أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد ، وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية ، فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر ، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق . والثالث : أنه تعالى لما وصفهم بقوله : { فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } [ الإسراء : 60 ] بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس { لأحتنكن ذريته إلا قليلا } فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم ، فهذا هو الكلام في كيفية النظم .

المسألة الثانية : اعلم أن هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة ، وهي : البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة والأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص ؟ فظاهر لفظ الملائكة يفيد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السماوات { وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] يوجب خروج ملائكة السماوات من هذا العموم .

المسألة الثانية : أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية ، وعلى التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود ؟

المسألة الثالثة : أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا ؟ وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله ؟

المسألة الرابعة : هل كان إبليس كافرا من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت ؟

المسألة الخامسة : الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك .

المسألة السادسة : شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله : { أأسجد لمن خلقت طينا } أو غيره .

المسألة السابعة : دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه ، إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد ، ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله ألبتة .

المسألة الثامنة : ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة ؟

ولنرجع إلى التفسير فنقول : إنه تعالى حكى في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل ونوعين من القول ، أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله : { فسجدوا إلا إبليس } وأما النوعان من القول ؟ فأولهما : قوله : { أأسجد لمن خلقت طينا } وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه ، والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى .