مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا} (14)

وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } .

الوجه الثاني : أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا ، مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعما عليهم بأعظم وجوه النعم . وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولا عن أعماله وأقواله .

الوجه الثالث : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار ، كان المعنى : إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة ، أو تمرد وعصى وبغى ، فهذا هو الوجه في تقرير النظم .

المسألة الثانية : في تفسير لفظ ، الطائر ، قولان :

القول الأول : أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة ، فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس : { قالوا إنا تطيرنا بكم } إلى قوله : { قالوا طائركم معكم } فقوله : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه . وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد : { ألزمناه طائره في عنقه } .

القول الثاني : قال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت ، وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر ، والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم ، والعمر والرزق ، والسعادة والشقاوة . والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه ، بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية ، فتلك الأشياء المقدرة كأنها تطير إليه وتصير إليه ، فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر ، فقوله : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله ، فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه .

واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم ، وتقريره من وجهين :

الوجه الأول : أن تقدير الآية : وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه ، فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له ، وما كان لازما للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود .

والوجه الثاني : أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه ، لأن قوله : { ألزمناه } تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ، ونظيره قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : « جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله : { في عنقه } كناية عن اللزوم كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلدتك كذا وطوقتك كذا ، أي صرفته إليك وألزمته إياك ، ومنه قلده السلطان كذا . أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ، ومنه يقال : فلان يقلد فلانا أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه . قال أهل المعاني : وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيرا يزينه أو شرا يشينه ، وما يزين يكون كالطوق والحلي ، والذي يشين فهو كالغل ، فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له ، وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته .

ثم قال تعالى : { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } قال الحسن : يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك . فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة . قوله : { ونخرج له } أي من قبره يجوز أن يكون معناه : نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر ، وقرأ يعقوب : ( ويخرج له يوم القيامة كتابا ) أي يخرج له الطائر أي عمله كتابا منشورا ، كقوله تعالى : { وإذا الصحف نشرت } وقرأ ابن عامر : ( يلقاه ) من قولهم : لقيت فلانا الشيء أي استقبلته به .

قال تعالى : { ولقاهم نضرة وسرورا } وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد .

ثم قال تعالى : { اقرأ كتابك } والتقدير يقال له : وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة { اقرأ كتابك } قال الحسن : يقرؤه أميا كان أو غير أمي ، وقال بكر بن عبد الله : يؤتى للمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها ، حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى : «اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك » فيعظم سروره ، ويصير من الذين قال في حقهم : { وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة } ثم يقول : { هاؤم اقرؤا كتابيه } .

وأما قوله : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي محاسبا . قال الحسن : عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك . قال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : قال حكماء الإسلام : هذه الآية في غاية الشرف ، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث :

البحث الأول : أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه ، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارا من الخير والشر ، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه ، فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت ، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولا لا خلاص له البتة ولا انحراف عنه البتة . وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طائر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين ، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر ، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية .

والبحث الثاني : أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى . وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثا متقدما عليه لحصول الحادث المتأخر ، فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله ، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها ، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب ، وأنها صارت وطارت طيرانا لا بداية له ولا غاية له ، وكان كل واحد منها متوجها إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة ، وهذا هو المراد من قوله : { ألزمناه طائره في عنقه } .

البحث الثالث : أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظا ، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له .

إذا عرفت هذا فنقول : لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس ، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر ، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا ، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة ، فعلى هذا ، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ، ممتنعة الزوال ، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح .

وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول : إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا قويا كان أو ضعيفا ، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص ، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات . وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان . إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن ، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها ، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام : « من مات فقد قامت قيامته » ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي ، فإذا انقطع ذلك التعلق ، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي ، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء ، وقيل له { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } وقوله : { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } معناه : ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابا مشتملا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورا ، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية . أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية ، وظاهرة بعد أن كانت مخفية ، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة : { اقرأ كتابك } ثم يقال له : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة حصلت السعادة لا محالة ، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة ، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية .

واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها ، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا ، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ، والله أعلم بحقائق الأمور .