مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا} (15)

قوله تعالى { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ومعناه : أن كل أحد مختص بعمل نفسه ، عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ، ولا يتعدى منه إلى غيره ، ويتأكد هذا بقوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى } قال الكعبي : الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر ، وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلا لأن قوله : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد ، أما المجبور على أحد الطرفين ، الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به .

المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } قال الزجاج : يقال وزر يزر فهو وازر ، ووزر ووزرا وزرة ، ومعناه : أثم يأثم قال : وفي تأويل الآية وجهان : الأول : أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره ، وأيضا غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه . والثاني : أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم ، لأن غيره عمله كما قال الكفار : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } .

واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة .

الحكم الأول :

قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم ، وإلا لكان الطفل مؤاخذا بذنب أبيه ، وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية .

الحكم الثاني :

روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الميت ليعذب ببكاء أهله » فعائشة طعنت في صحة هذا الخبر ، واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره ، وذلك خلاف هذه الآية .

الحكم الثالث :

قال القاضي : دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى . وبيانه من وجوه : أحدها : أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره . وثانيها : أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا ، لأن الوزر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز ، ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا .

الحكم الرابع :

أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة ، وقالوا : لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير ، وذلك على مضادة هذه الآية .

وأجيب عنه بأن المخطئ ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل ، فكيف يصير غيره مؤاخذا بسبب ذلك الفعل ، بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى .

المسألة الثالثة : قال أصحابنا : وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع ، والدليل عليه قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ، ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية ، فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع . ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وبقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } .

ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال ضعيف ، وبيانه من وجهين : الأول : أن نقول : لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة ، وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه :

أحدها : أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة ، فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب ؟ فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة . وإن وجب ، فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي ، وإن وجب بالشرع فهو باطل ، لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره ، والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول : الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي ، وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول : ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان . وثانيها : أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال ، وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم ، إلا أن يقول : لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول : إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب ، فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب البتة ، وهذا باطل فذاك باطل ، وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب ، فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع ، فإن وجب بالعقل فهو المقصود ، وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه ، وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال . وثالثها : أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب ، فلم يبق إلا أن يقال : إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب ، وهذا الخوف حاصل بمحض العقل ، فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف ، وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل ، فلزم أن يقال : الوجوب حاصل بمحض العقل .

فإن قالوا : ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم .

قلنا : إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم ، فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل ، فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه .

وإذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان : الأول : أن نجري الآية على ظاهرها . ونقول : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء ، فالعقل هو الرسول الأصلي ، فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل . والثاني : أن نخصص عموم الآية فنقول : المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ، وتخصيص العموم وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل ، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة ، على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي ، والله أعلم .

واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به ، وترك ما يتضرر به ، أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء . وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر ، فلا جرم كان العقل وحده كافيا في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر ، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل ، والله أعلم .